* قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)} الحج: ٧٨.
في هذا: فضلُ جهادِ اللِّسانِ؛ فهذه الآيةُ مكيَّةٌ، وقد شرَعَ اللَّهُ فيها مجاهَدَةَ الكفارِ بالحُجَّةِ والبيانِ والبرهانِ، وحينَما أمَرَ اللَّهُ بجهادِ اللِّسانِ، وصَفَ النوعَ الذي يأمُرُ به بوصفَيْنِ في كتابِهِ لم يَصِفْ بهما جهادَ السِّنانِ مع عظَمتِهِ وفضلِهِ وجلالةِ قَدْرِه:
الأولُ: أنَّه جهادٌ كبيرٌ؛ كما في قولِهِ تعالى في سورةِ الفُرْقانِ: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} الفرقان: ٥٢.
والثاني: أنَّه حقُّ الجهادِ؛ كما في هذه الآيةِ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}.
وجهادُ اللِّسانِ أمضَى من جهادِ السِّنانِ لمَن قدَرَ عليه وسدَّدَهُ اللَّهُ.
وقولُه تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}: المرادُ بالأُبوَّةِ: الأبوَّةُ الدينيَّةُ؛ فإبراهيمُ إمامُ الحُنَفاءِ، وهو أبٌ للمؤمِنينَ بهذا المعنى تعظيمًا وإجلالًا، وكما تُطلَقُ الأبوَّةُ على إبراهيمَ بهذا المعنى، فإنَّها تُطلَقُ على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنَّما أخَذَتْ أُمَّهاتُ المؤمِنينَ منه الأُمُومةَ، وفي قراءةِ ابنِ مسعودٍ وأُبيِّ بنِ كعبٍ وابنِ عبَّاسٍ، ومجاهدٍ والحسنِ وقتادةَ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ) (١).
(١) ينظر: "تفسير الطبري" (١٩/ ١٦)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٩/ ٣١١٥)، و"تفسير القرطبي" (١١/ ١٧٧)، و"تفسير ابن كثير" (٦/ ٣٨١).