أَأُوصِي؟ فقالَ له عَلِيٌّ: إنَّما قَالَ اللَّهُ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}، وإنَّكَ إنَّما تَرَكْتَ شيئًا يَسِيرًا، فاتْرُكْهُ لِوَلَدِكَ (١).
ورُوِيَ مِن حديثِ الحَكَمِ بنِ أَبَانَ، حدَّثنِي عِكْرِمةُ، عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}؛ قال ابنُ عَبَّاسٍ: "مَن لم يَتْرُكْ سِتِّينَ دِينارًا، لم يَتْرُكْ خَيْرَا"، وقالَ الحَكَمُ: "لم يَتْرُكْ خَيْرًا مَن لم يَتْرُكْ ثَمَانِينَ دِينارًا" (٢).
وبعضُ العلماءِ لم يفرِّقْ بين المالِ القليلِ والكثيرِ، إلا أنَّها تتأكَّدُ في المالِ الكثيرِ؛ لعِظَمِ الأمانةِ فيه، وأنَّ مَن ترَكَ مالًا كثيرًا يُخشى مِن فسادِهِ أو فسادِ الناسِ به، ربَّما أَثِمَ في عدمِ وصيَّتِهِ به، فالوصيةُ تضبِطُ الأمرَ وتسلِّطُ المالَ على هَلَكَتِه في الحقِّ.
والوصيَّةُ هي الأمرُ بفعلِ شيءٍ في حالِ غيابِ الآمِرِ أو وفاتِه، وغلَبَ استعمالُها بعدَ الموتِ، واستقَرَّ الاصطلاحُ الشرعيُّ على ما يأمُرُ بفعلِهِ الإنسانُ غيرَهُ عندَ قُرْبِ أَجَلِه؛ ومِن ذلك: ما في حديثِ العِرْباضِ بنِ سَارِيَةَ؛ قال: "وَعَظَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِظةً وَجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ؛ فقُلْنا: يا رَسُولَ اللهِ، كأنَّها مَوْعِظةُ مُوَدِّعٍ فأَوْصِنا. . ."؛ الحديثَ؛ أخرَجَهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ (٣).
وهذا ما ينبَغي للعاقلِ أنْ يُوصِيَ غيرَهُ بالحقِّ، فهو عندَ حضورِ الأَجَلِ أشدُّ وقعًا، وأصدَقُ معنًى؛ لخلوصِهِ مِن كلِّ مطمعٍ يُرجَى، وهكذا كان يُوصِي الأنبياءُ؛ قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} البقرة: ١٣٣، وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} البقرة: ١٣٢.
(١) "تفسير ابن أبي حاتم" (١/ ٢٩٨).
(٢) "تفسير ابن أبي حاتم" (١/ ٢٩٩).
(٣) أخرجه أحمد (١٧١٤٤) (٤/ ١٢٦)، وأبو داود (٤٦٠٧) (٤/ ٢٠٠)، والترمذي (٢٦٧٦) (٥/ ٤٤)، وغيرهم.