التفلُّتِ أكثَرَ مِن غيرِه مِن الكلامِ، وقد جعَلَ اللَّهُ فيه خَصلتَيْنِ مُتقابلتَيْنِ؛ أنَّ مَن أقبَلَ على القرآنِ أقبَلَ عليه، ومَن أدبَرَ عنه أدبَرَ عنه:
فالأُولى: أنَّ اللَّهَ جعَل حِفْظَهُ أسهَلَ مِن غيرِه لمَنْ حَسُنَت نيَّتُه وسَلِمَ قصدُه؛ وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} القمر: ١٧.
والثانيةُ: أنَّ نِسيانَه أسرَعُ مِن غيرِه مِن الكلامِ المحفوظِ.
فقد جعَل اللَّهُ إقبالَهُ سهلًا يسيرًا لقاصدِه، وإدبارَهُ سريعًا عن المُعرِضِ عنه؛ فلا يَبقى فى قلبِ مَن زهِد فيه ورغِب عنه؛ كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم- (بِئْسَمَا لِأَحَدِهِم يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ؛ فَلَهُوَ أَشدُّ تَفَصِّيَّا من صُدُورِ الرِّجَالِ، مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا)؛ رواهُ الشيخانِ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ (١).
وفي الصحيحينِ أيضًا، عن أبي موسى الأشعريِّ مرفوعًا: "تَعَاهَدُوا هَذَا القُرآنَ؛ فَوَالَّذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهُوَ أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا" (٢).
ولمَّا كانتِ المَعاصي مِن الإعراضِ عنه ولو إعراضَ عملٍ، فإنَّ القرآنُ يُعرضُ عن صاحِبِه بمقدارِ هجرِه للعملِ به؛ كما روى ابنُ أبي شَيْبةَ، عن الضَّحاكِ؛ قال: مَا تَعَلَّمَ رَجُلٌ القُرآنَ ثُمَّ نَسِبَهُ إِلَّا بِذَنبٍ؛ ثمَّ قرأ الضَّحَّاكُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى: ٣٠، ثمَّ قال الضَّحَّاكُ: وَأَيُّ مُصيبَةٍ أَعْظَمُ مِن نِسْيَانِ القُرْآنِ؟ ! (٣).
ومَن قرَأ القرآنَ لنفسِه، فلا يجبُ عليه أن يَسمَعَه مِن غيرِه، لكنْ يُستحَبُّ له ذلك ويُسَنُّ؛ لأنَّ للأُذُنِ حقًّا كما أنَّ للِّسانِ والقلبِ حقًّا، وقد
(١) أخرجه البخاري (٥٠٣٢)، ومسلم (٧٩٠).
(٢) أخرجه البخاري (٥٠٣٣)، ومسلم (٧٩١).
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٢٩٩٩٦).