وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّ مَن ترَكَها، فقد ترَكَ التقوى، وربَّما وقَعَ فىِ المعصيةِ، وهي ضدُّ التقوى.
واستدَلَّ بما ثبَتَ في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ ابنِ عمرَ، مرفوعًا: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مالٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) (١).
ويُشكِلُ على الاستدلالِ بهذا الحديثِ: أنَّ ابنَ عُمَرَ - راويَ الخبرِ - لم يُوصِ بشيءٍ مِن مالِه، وهو أعلَمُ الناسِ بمَرْوِيِّهِ، وأعرفُ الناسِ بمعنى قولِه - صلى الله عليه وسلم - في الحقِّ: (مَا حَقُّ امْرِئٍ)، وراوي الحديثِ المرفوعِ وراوي عدَمِ وصيَّةِ ابنِ عمرَ: واحدٌ، وهو نافعٌ مَوْلاهُ.
فقد روى ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ؛ مِن حديثِ أيوبَ، عن نافعٍ؛ أنَّ ابنَ عمرَ لم يُوصِ، وقال: "أمَّا مالي، فاللهُ أعلَمُ ما كنتُ أصنَعُ فيه في الحياةِ، وأمَّا رِبَاعِي، فما أُحِبُّ أنْ يَشْرَكَ ولدي فيها أحدٌ" (٢).
ويظهرُ أنَّ المرادَ بقولِه - عليِه الصلاةُ والسلامُ -: (مَا حَقُّ امْرِئٍ): ما حَزْمُهُ وحياطتُهُ؛ وذلك لأنَّها إبراءٌ للذِّمَّةِ، ويؤكِّدُ هذا أنَّ الحديثَ جاء مقيَّدًا بمَنْ يخافُ على ذِمَّتِهِ التَّبِعَةَ وفواتَ حقِّ غيرِه، وجاء في بعضِ ألفاظِ الحديثِ في "الصحيحِ": (وَلَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ) (٣)، وفي لفظٍ آخَرَ: (يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ) (٤).
فقيَّدَ الوصيَّةَ بمُوجِبِها؛ وهو إرادةُ إبراءِ الذِّمَّةِ، أو وجودُ ما يُوجِبُ الوصيَّةَ، وتعليقُ الأمرِ بإرادةِ الفاعلِ ومشيئتِهِ: ممَّا يَصرِفُ الأمرَ مِن
(١) أخرجه البخاري (٢٧٣٨) (٤/ ٢)، ومسلم (١٦٢٧) (٣/ ١٢٤٩).
(٢) "تفسير الطبري" (٣/ ١٣٣).
(٣) أخرجه أحمد (٥٥١٣) (٢/ ٨٠)، رمسلم (١٦٢٧) (٣/ ١٢٤٩)، والترمذي (٩٧٤) (٣/ ٢٩٥).
(٤) أخرجه أحمد (٥١١٨) (٢/ ٥٠)