مِن صفةِ مشْيَتِه؛ فإنَّ الإنسانَ يُطبَعُ على ذلك ويُجبَلُ ولا يَتكلَّفُهُ ولا يكتسِبُهُ؛ فهذا لا يُمدَحُ الإنسانُ بفعلِهِ وتكلُّفِهِ لو قدَرَ عليه.
ومِن ذلك: مِشْية النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ففي مسلم؛ مِن حديثِ أنسٍ؛ قال: "كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَزْهَرَ اللَّوْنِ، كَأَنَّ عَرَفَهُ اللُّؤْلُؤُ، إِذَا مَشَى، تَكَفَّأَ" (١).
وفي الحديثِ الآخَرِ: "أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا مَشى، تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِن صَبَبٍ"؛ رواهُ أحمدُ والتِّرمذيُّ، مِن حديثِ عليٍّ (٢).
ومَن نظَرَ في فقهِ الصحابةِ -رضي اللَّه عنهم-، وجَدَ أنَّهم يُكثِرونَ مِن ذِكْرِ أفعالِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- التعبُّديَّةِ، ويذكُرونَها في سياقِ الاقتداءِ, وأمَّا بقيةُ أفعالِهِ كأفعالِ العادةِ والأفعالِ الجِبليَّةِ، فلا يذكُرونَها إلَّا اعتراضًا وفي سياقِ الوصفِ.
* * *
* قال تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦)} الأحزاب: ٢٦.
لمَّا اجتمَعَتِ الأحزابُ ضدَّ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لقتالِه، قام اليهودُ مِن بني قُرَيْظَةَ بمظاهَرةِ أولئك وإعانتِهم على رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنقَضُوا عَهْدَهم الذي كان مع النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وقد ذكَرَ اللَّهُ إنزالَ بني قُرَيظَة {مِنْ صَيَاصِيهِمْ}، وهي حصونُهُمْ، لإعانةِ المشركينَ؛ مِنَّةً منه؛ ليَكشِفَ شدةَ ما تُكِنُّهُ صدورُهم مِن حقدٍ وبغضاءَ وتربُّصٍ وتحيُّنٍ للفُرَصِ لقتلِ المؤمنين؛ وفي هذا أنَّ اللَّه يُنزِلُ الشدائدَ في الأمَّةِ، وفي رَحِمِها مِنَنٌ وخيرٌ لهم.
(١) أخرجه مسلم (٢٣٣٠).
(٢) أخرجه أحمد (١/ ٩٦)، والترمذي (٣٦٣٧).