قال ابنُ عبدِ البرِّ في "الاستذكارِ": "الفقهاءُ في الإطعامِ في هذا البابِ، وفي سائرِ أبوابِ الصيامِ وسائرِ الكفَّاراتِ، على أصولِهم؛ كلٌّ على أصلِهِ، والأطعامُ عندَ الحجازيِّينَ مُدًّا بمُدِّ النبيِّ، وعندَ العراقيِّينَ نصفَ صاعٍ" (١).
وتفسيرُ بعضِهم الفِدْيةَ في كفارةِ الصيامِ بنصفِ صاعٍ؛ كمجاهِدٍ وغيرِه؛ للاحتياطِ، وأنَّ الأغلبَ أنَّ في نصفِ الصاعِ كفايةً، وهذا ما يَظهرُ مِن النصِّ في قولِه: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}؛ يعني: مَن زاد في الإطعامِ ليحتاطَ، فهو خيرٌ.
كلُّ ما لم يقدِّرْهُ الشارعُ، مردُّهُ إلى العرف:
وهكذا كلُّ ما لم يقدِّرْهُ الشارعُ بشيءٍ معيَّنٍ، فمَرَدُّهُ إلى العُرْفِ؛ كطعامِ المرأةِ والولَدِ، والمملوكِ والأجيرِ بمِلْءِ بطنِه، وهكذا الكِسْوةُ، وحقُّ الضيفِ، وحقُّ الضيافةِ المشروطةِ على أهلِ الذِّمَّةِ.
ولهذا: فمَن جمَعَ مساكينَ على وَلِيمةٍ، فأكَلُوا منها بلا مِقدارِ حتَّى شَبِعُوا، أجزَأَهُ بعَدَدِهم، ولو كان من الأَرُزِّ أو الخبزِ أو المأكولاتِ الحديثةِ من (السَّنْدَوِتْشاتِ) وغيرِها؛ وهذا الذي يجري عليه قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ، وقولُ أحمدَ في روايةٍ.
ثمَّ إنَّ اللهَ أمَرَ بالإطعامِ، ولم يأمُرْ بالتمليكِ؛ لا كحالِ زكاةِ الفِطْرِ؛ فزكاةُ الفطرِ تمليكٌ للمِسْكِينِ، ولا يَلزَمُ مِن ذلك أَكْلُه، وأمَّا الكفارةُ فهي إطعامٌ، ويكفي في ذلك تحقُّقُه بأيِّ نوعٍ وبأيِّ مقدارٍ؛ ما أشبَعَ الجائعَ.
ولا حرَجَ على مَن عليه فِدْيةٌ متعدِّدةٌ إخراجُها مرَّةً واحدةً؛ فقد روى الدارقطنيُّ؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ أبي عَرُوبةَ وهشامٍ، عن قَتَادةَ، عن أنَسِ بنِ مالكٍ: "أنَّه كَبِرَ، فأمَرَ أن يُطعَمَ عنه؛ عن كلِّ يومٍ مسكينًا، فأطعَمَ عن ثلاثينَ يومًا" (٢).
(١) "الاستذكار" (١٠/ ٢٢٤).
(٢) أخرجه الدارقطني في "سننه" (٢٣٩١) (٣/ ١٩٩).