مجرَّدًا علامةُ فسادِهم، وهذا ما قصدَتْهُ الملائكةُ في قْولِهم مستفهِمينَ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}؟ ! لأنَّ الجِنَّ سبَقُوا البشرَ في الأرضِ، فأفسَدُوا واقتتَلُوا؛ روى ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ، وغيرُهما، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ؛ في قولِهِ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، إلى قولِه: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} البقرة: ٣٣؛ قال: خلَقَ اللهُ الملائكةَ يومَ الأربِعاءِ، وخلَقَ الجِنَّ يومَ الخميسِ، وخلَقَ آدمَ يومَ الجُمُعَةِ؛ فكفَرَ قومٌ مِن الجنِّ، فكانتِ الملائكةُ تَهبِطُ إليهم في الأرضِ فتُقاتِلُهم، فكانتِ الدماءُ بينَهم، وكان الفسادُ في الأرض، فمِن ثَمَّ قالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}؛ كما أفسَدَتِ الجنُّ، {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}؛ كما سَفَكُوا (١).
ورُوِيَ هذا عن الضَّحَّاكِ عن ابنِ عبَّاسٍ (٢).
وإنَّما كان الفسادُ لازمًا عن وجودِ الاستخلافِ؛ لأنَّ البشرَ المستخلَفِينَ يتناسَوْنَ ما يقعُ مِن خطإِ آبائِهم، فيتكرَّرُ فيهم ما سبَقَ في غيرِهم، بخلافِ مَن يعمَّرُ ويخلَّدُ دائمًا بلا استخلافٍ، فإنَّ الخطأَ يقَعُ منه مرةً ولا يتكرَّرُ غالبًا؛ لأنَّه يَذكُرُهُ بنفسِهِ، ويذوقُ ألمَهُ بحواسِّه.
ثمَّ إنَّ مَن يُستخلَفُ يُنازِعُ غيرَهُ على البقاءِ، ويتشبَّثُ بأسبابِه، ويخافُ مِن الموتِ ويترقَّبُهُ، ويهرُبُ من أسبابِه؛ ليدومَ بقاؤُهُ أطولَ؛ لهذا نشَأَ في البشرِ الحسدُ والكذبُ والتدليسُ والسرقةُ والقتلُ منازَعَةً لسلامةِ الحياةِ والبقاءِ فيها.
ولا يستقيمُ حالُ بني آدمَ إلا بخليفةٍ يحكُمُ بالعدلِ؛ ولهذا نجدُ أنَّ كلَّ فسادِ الناسِ يكونُ بخروجِهم عن حُكْمِ اللهِ، وحُكْمُ اللهِ لا بدَّ له مِن قائمٍ به، وهو الخليفةُ؛ فالفسادُ يتحقَّقُ بخروجِ الخليفةِ عن حُكْمِ اللهِ، وبخروجِ المحكومِ عن حكمِ الخليفةِ إذا حكمَ بحكمِ اللهِ وبما لا يُنافِيه.
ومِن الوجوهِ على وجوبِ التأميرِ: أنَّ اللهَ أمَرَ الناسَ بالاجتماعِ،
(١) "تفسير الطبري" (١/ ٤٩٤)، وتفسير ابن أبي حاتم (١/ ٧٧).
(٢) "تفسير الطبري" (١/ ٤٧٨).