بعد ذلك قِتَالَهم؛ لإلحاقِ الضَّعْفِ بهم، وهذا سببٌ للقتالِ أوسعُ مِن الأسبابِ الأُولى.
وقد جعَلَ بعضُ السَّلفِ هذه الآيةَ ناسخةً للآياتِ السابقةِ؛ فقد روى ابنُ جريرٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ؛ قولَهُ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} البقرة: ١٩١: "كانُوا لا يُقاتِلونَ فيه حتَّى يُبدَؤوا بالقِتالِ، ثمَّ نُسِخَ بعدَ ذلك، فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؛ حتَّى لا يكونَ شِرْكٌ، {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}؛ أنْ يُقالَ: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، عليها قاتَلَ نبيُّ اللهِ، وإليها دَعَا" (١).
فتنةُ الكفرِ أشدُّ من فتنةِ القتلِ:
أمرَ اللهُ بقتالِ المشرِكِينَ حتَّى لا تكونَ فِتْنةٌ، والفِتْنةُ هنا الكفرُ؛ وهذا دليلٌ على أنَّ نَشْرَ أسبابِ الكفرِ من أقوالٍ وكتبٍ، وإذاعتَها، والتهاوُن مع أصحابِها: أعظَمُ مِن انتشارِ أسبابِ القتلِ؛ لأنَّ الكفرَ أكبَرُ مِن القتلِ وأشَدُّ.
وفي الآيةِ: وجوبُ دفعِ أسبابِ فتنةِ الكفرِ عنِ المسلِمِينَ ولو بالقتلِ، وفتنةُ الكُفَّارِ هي كُفْرُهم، فإذا قوِيَتْ شَوْكَتُهم، تَبِعَهمُ المؤمنونَ.
روى ابنُ جريرٍ الطبريُّ؛ مِن حديثِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ؛ في قولِ اللهِ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} البقرة: ١٩١؛ قال: "ارتدادُ المؤمنِ إلى الوَثنِ أشدُّ عليهِ مِن القتلِ" (٢).
وقد أمرَنَا اللهُ بمقاتَلَتِهم حتَّى تندفِعَ فِتْنَتُهم عنِ المسلِمِينَ، لا أن تندفِعَ فتنتُهم كلُّها عن أَنْفُسِهم؛ لأنَّ هذا محالٌ؛ فالكُفَّارُ باقُونَ إلى قيامِ الساعةِ، وفتنتُهم تُدفَعُ بثلاثةِ أمورٍ:
(١) "تفسير الطبري" (٣/ ٢٩٥ - ٢٩٦).
(٢) "تفسير الطبري" (٣/ ٢٩٤).