ففعلُهُ كالنصحِ الذي أخَذَت به الأُمَّةُ ولَزِمَتْه لمنزلةِ الناصحِ؛ ولذا يُشرَعُ للخليفةِ الصالحِ أنْ ينصَحَ مستخلِفًا بعدَهُ لا ملزِمًا للناسِ به؛ حتى لا يختَلِفُوا ويقتتِلُوا عليه؛ ولذا روى البخاريُّ عن عمرَ بنِ الخطابِ؛ قال: "مَنْ بايَعَ رجلًا على غيرِ مشورةٍ مِن المسلِمينَ، فلا يُتابَعُ هو ولا الذي بايَعَهُ؛ تَغِرَّةً أن يُقْتَلَا" (١)؛ أيْ: حذَرًا مِن القتلِ والفتنةِ في المسلِمينَ بسببِ عدَمِ الشُّورى فيهم.
ووصيةُ الإمامِ ونصحُهُ لمَن بعدَهُ يكونُ على صورتَيْنِ:
الأُولى: أنْ ينصَحَ بإمام بعينِهِ أنْ يستخلِفَهُ الناسُ مِن بعدِهِ، فإنْ رَضُوهُ، مَضَى؛ كما فعَلَ أبو بكرٍ مع عُمَرَ، وإنْ لم يَرْضَوْهُ، لم تصحَّ وِلايتُه.
الثانيةُ: أنْ ينصَحَ بتعيينِ أهلِ شُورى وحَلٍّ وعَقْدٍ أنْ يختارُوا للناسِ إمامًا؛ كما فعَلَ عمرُ؛ حتى لا يتنازَعَ الناسُ في تعيينِ أهلِ الحَلِّ والعَقْدِ والشُّورى منهم؛ فقد روَى مسلمٌ؛ مِن حديثِ معْدَانَ بنِ أبي طلحةَ؛ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ خطَبَ يومَ الجُمُعةِ، فذكَرَ نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذكَرَ أبا بكرٍ؛ قال: إنِّي رأيتُ كأنَّ دِيكًا نَقَرَني ثلاثَ نَقَرَاتٍ، وإنِّي لا أُرَاهُ إلا حُضُورَ أَجَلِي، وإنَّ أقوامًا يأمُرُونَني أنْ أَستخلِفَ، وإنَّ اللهَ لم يكنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ، ولا خِلافتَهُ، ولا الذي بعَثَ به نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم -، فإنْ عَجِلَ بي أمرٌ، فالخلافةُ شُورى بينَ هؤلاءِ الستَّةِ (٢).
وتعيينُ عمرَ لأهلِ الشُّورى نصحٌ ووصيةٌ لقَبُولِ الناسِ لرأيِهِ وثقتِهم فيه، فأرادَ أنْ يَجْمَعَهم، لا أنْ يترُكَهم فيتنازَعُوا.
وإذا لم يَقْبَلِ الناسُ تعيينَ أهلِ الشُّورى مِن قِبَل الإمامِ لم يكُنْ ذلك ماضيًا عليهم؛ لأنَّ أهلَ الشُّورى ليسُوا بأَوْلى مِن الإمامِ المُستخلَفِ، فإذا كان الاستخلافُ لا يصحُّ إلا برِضا أهلِ الشُّورى، فمِن بابِ أولى أنَّ أهلَ الشُّورى لا يمضُونَ إلا بأنْ يَرْضَى عنهم الناسُ الذين تكونُ بهم شَوْكةٌ.
(١) أخرجه البخاري (٦٨٣٠) (٨/ ١٦٩).
(٢) أخرجه مسلم (٥٦٧) (١/ ٣٩٦).