قَانِتِينَ}؛ فأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ" (١).
والنهيُ عنِ الكلامِ في الصلاةِ كان بِمَكَّةَ قبلَ الهجرةِ، والآيةُ مدنيَّةٌ أَكَّدَتِ الحُكْمَ وثَبَّتَتْهُ، وربَّما استدَلَّ به زيدٌ على الحُكْمِ، وهذا لا يُنافي ثبوتَهُ سابقًا، وهذا يَرِدُ كثيرًا في تفسيرِ السلفِ؛ يستدِلُّونَ بدليلٍ نزَلَ في مناسَبةٍ لاحقةٍ على ما يشابِهُها مِن المناسَباتِ السابقةِ، فيَذْكُرونَ الدليلَ بِما يُفهَمُ منه أنَّه سببُ النزولِ فيها؛ فيُظَنُّ أنَّ السلفَ اختَلَفُوا في سببِ النزولِ.
وقد جاءَ عنِ ابنِ مسعودٍ؛ قال: "كنَّا نُسَلِّمُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أنْ نُهاجِرَ إلى الحَبَشةِ، وهو في الصَّلَاةِ، فيَرُدُّ علينا، قال: فلمَّا قَدِمْنَا، سَلَّمْتُ عليه، فلم يَرُدَّ عَلَيَّ، فأَخَذَني مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، فلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّي لَمْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ فِي الصَّلَاةِ، وإنَّ اللهَ - عز وجل - يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ" (٢).
وفي "صحيحِ مسلمٍ"؛ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قالَ لمعاويةَ بنِ الحكَمِ السُّلَميِّ، حِينَ تكلَّمَ في الصلاةِ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ) (٣).
وقد فسِّرَ القنوتُ بالطاعةِ؛ وهو مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ وعطاءٍ والشَّعْبيِّ ومجاهِدٍ وطاوُسٍ وغيرِهم، والمرادُ بالطاعةِ: الإخلاصُ والتجرُّدُ له بالتعبُّدِ؛ ولذا قالَ: {لِلَّهِ}؛ أي: لا لغيرِه.
وهذا أعمُّ وأوسَعُ المعاني في تأويلِ القنوتِ، ويدخُلُ فيه غيرُهُ مِن التفاسيرِ الأخرى؛ كتفسيرِ القنوتِ بالسكوتِ، وهو الإمساكُ عنِ الكلامِ
(١) أخرجه البخاري (١٢٠٠) (٢/ ٦٢)، ومسلم (٥٣٩) (١/ ٣٨٣).
(٢) أخرجه أحمد (٣٥٧٥) (١/ ٣٧٧)، والنسائي (١٢٢١) (٣/ ١٩).
(٣) أخرجه مسلم (٥٣٧) (١/ ٣٨١).