لِيُشْقِيَهُ، حتى لو كان فقيرًا، لكان أهوَنَ مِن غناه، ومِن أعظمِ أنواعِ العذابِ: العذابُ بالنِّعْمةِ يَهَبُها اللهُ الإنسانَ ليتمسَّكَ بها - بل يَبْحَثَ عنها - فيعذِّبَهُ بها؛ فلا هو الذي يريدُ الخلاصَ مِنها برغبتِهِ؛ ليَلْزَمَ عذابُهُ، وهو يَعجِزُ عن تَرْكِه، بخلافِ العذابِ بالنِّقْمةِ والمصيبةِ والمرضِ، فالإنسانُ يطلُبُ منها شفاءً وعافيةً، ويتمنَّى منها مَخْرَجًا، فلو فُتِحَ له بابٌ إلى العافيةِ والشِّفاءِ، لَخَرَجَ، وأمَّا الغنيُّ المعذَّبُ بمالِهِ، فلو فُتِحَ له بابٌ إلى الفَقْرِ، لَمَا خرَجَ إليه، فيعذِّبُهُ اللهُ بمالِهِ وهو ممسِكٌ به.
وقولُهُ تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ مَن عادَ بعدَ عِلْمِهِ بحُرْمةِ الرِّبا، فعانَدَ وكابَرَ، استحَقَّ التشديدَ، وبمِقْدارِ العلمِ والعنادِ تكونُ العقوبةُ، والخلودُ: طُولُ المُكْثِ، وتسمِّي العربُ مولودَها: خَالِدًا؛ تيمُّنًا بتعميرِهِ، لا بتخليدِهِ بلا نهايةٍ.
* * *
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} البقرة: ٢٧٨.
الحكمةُ من تأخيرِ تحريم الربا:
أخَّر اللهُ نزولَ تحريمِ الرِّبا؛ لتعلُّقِ الناسِ به، وشِدَّةِ تمسُّكِهِمْ بأرزاقِهِمْ, فأجَّلَ نزولَ التحريمِ حتى يَقْوَى إيمانُهم؛ لِيسهُلَ عليهمُ التَّرْكُ؛ فقد روى ابنُ جريرٍ؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ المسيِّبِ، عن عُمَرَ بنِ الخطابِ؛ قال: "آخِرُ ما نَزَلَ مِن القرآنِ آيةُ الرِّبَا، وإنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُبِضَ قَبْلَ أَن يُفَسِّرَهَا، فدَعُوا الرِّبا والرِّيبةَ" (١).
وربَّما تأخَّرَ تحريمُ الشيءِ وهو عظيمٌ؛ لأنَّ تعلُّقَ الناسِ به أعظَمُ،
(١) "تفسير الطبري" (٥/ ٦٦).