ولأنَّ الحبسَ عقوبةٌ، والشريعةُ جاءت بإنزالِ العقوبةِ لتحقُّقِ نفعٍ أو دفعِ ضرٍّ، والإعسارُ ليس ذنبًا يستوجِبُ عقوبة يعزَّرُ عليها صاحبُها؛ وإنَّما هو ابتلاءٌ، فلا يُزادُ على بلاءِ المُعْسِرِ بلاءُ الحَبْسِ، فيتقيَّدَ عن الكَسْبِ لنفسِهِ وذريَّتِهِ وغُرَمائِهِ، ويجوزُ تأديبُ المُعْسِرِ وعقوبتُهُ استظهارًا لعُسْرِهِ واستيضاحًا لجِدَتِهِ.
فظاهرُ الآيةِ: أنَّ الأصلَ في الناسِ اليُسْرُ والجِدَةُ، وقد يكونُ منهم غنيٌّ مماطلٌ يَمنعُهُ مِن الوفاءِ البُخْلُ، فإذا حُبِسَ، أدَّى دَيْنَهُ وقضاهُ؛ وذلك لقولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: (لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ مِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ) (١).
وهذا قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ وعامَّةِ السلفِ.
ويُقيِّدُ مالكٌ الحبسَ إذا اتُّهِمَ أنَّه غَيَّبَ مالَهُ، فادَّعى العجزَ.
ويجوز تعزيرُهُ أيضًا إذا فرَّط في مالِ الناسِ تفريطًا يأثَمُ به؛ كمَنْ أَتلَفَهُ في حرامٍ، فهذا يعزَّرُ، لا لإعسارِهِ؛ وإنَّما لتفريطِهِ.
حكمُ إنظارِ المعسِرِ:
واختُلِفَ في إنظارِ المُعْسِرِ:
فمِنهُم: مَن قال بوجوبِهِ؛ لظاهرِ الأمرِ في الآيةِ، ومِثْلُهُ قولُهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} البقرة: ١٩٦، والفديةُ واجبةٌ.
ومنهم: مَن قال باستحبابِهِ، وحمَلُوا الآيةَ على الترغيبِ، والمالُ حقٌّ لصاحبِهِ له أخذُهُ متى شاءَ؛ وهذا هو الأظهرُ؛ لأنَّ اللهَ لم يَجْعَلْ تركَ الإنظارِ عقوبةَ للمُعْسِرِ، بل جعَلَ للمُعسرِ حقًّا في عدَمِ عقوبتِهِ وحَبْسِهِ إنْ بان إعسارُهُ على ما تقدَّم؛ ولهذا جاءتِ الأحاديثُ مستفيضةً في بيانِ
(١) أخرجه أحمد (١٧٩٤٦) (٤/ ٢٢٢)، وأبو داود (٣٦٢٨) (٣/ ٣١٣)، والنسائي (٤٦٨٩) (٧/ ٣١٦)، وابن ماجه (٢٤٢٧) (٢/ ٨١١).