الناسِ لا يَقدِرُ على الحديثِ؛ وإما يكتفِي قال بالإشارةِ والإيماءِ، ومعنى الرمز في قوله تعالى: {إِلَّا رَمْزًا}:
قال ابنُ عباسِ: يعني: الإشارةَ والإيماءَ؛ وبقولِه قال قتادةُ والضحَّاكُ والسُّدِّيُّ (١).
وقال مجاهدٌ: {إِلَّا رَمْزًا} يعني: الإيماءَ بالشفتَيْن (٢).
وقد جعَلَ اللهُ عدمَ قدرةِ زكريَّا على الكلامِ مدةَ ثلاثةِ أيامٍ، وهو أمرٌ لا اختيارَ له فيه - آيةً مِن اللهِ له مع قومِه, مع قدرتِه على الكلام للهِ تسبيحًا وتهليلًا وذكْرًا للهِ فحَسْبُ، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّ اللهَ لم يشَأْ أنْ يجعَلَ زكريَّا هاجِرًا لقومِه فوقَ ثلاثةِ أيامٍ، ولو كان بغيرِ اختيارِه وإرادتِه، وباختيارِه مِن بابِ أولى ألَّا يَصحَّ الهجرُ منه لهم؛ لأنَّ اللهَ خلَقَ الناسَ وحثَّهم على الخِلْطةِ والاجتماعِ، ومنعَهم من الافتراقِ والهَجْرِ، والنبيُّ مِن بابِ أولى؛ لأنَّه يُصلِحُ ويُقتدَى به، ويأمُرُ ويَنْهَى.
ولأنَّ طولَ الصمتِ يُخالِفُ أصلَ الفِطرةِ، والهجرُ لنعمةِ الكلامِ كالهجرِ لنعمةِ البصرِ والسمعِ والتفكُّرِ، ولد نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن طولِ الصمتِ كما في "سننِ أبي داودَ"؛ قال: (لا صُمَاتَ يَوْم إِلَى اللَّيْلِ) (٣).
وقيل بأنَّ صَمْتَ زكريَّا كان باختيارِه، وأنَّ اللهَ أذِنَ له في ذلك، ونسَخَ اللهُ الصمتَ لي شرْعَةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وفي كونِه اختيارًا نظرٌ؛ فاللهُ جعَلَ عدَمَ كلامِه آية، وعدمُ الكلامِ كلُّ يقدِرُ عليه باختيارِه، والمفسِّرونَ مِن السلفِ على أنَّ ذلك بلا اختيارٍ مِن زكريَّا.
وربَّما كان الناسُ لا يعلَمونَ سببَ صَمْتِه، والصمتُ يتضمَّنُ هجْرَهُ
(١) "تفسير الطبري" (٥/ ٣٨٩ - ٣٩٠).
(٢) "تفسير الطبري" (٥/ ٣٨٨).
(٣) أخرجه أبو داود (٢٨٧٣) (٣/ ١١٥).