القولُ الثاني: ما نقَلَه ابنُ المنذرِ عن أبي حنيفة: أنَّه جوَّزَها، وقال: القُرْعةُ في القياسِ لا تستقيمُ، ولكنَّا ترَكْنا القياسَ في ذلك، وأخَذْنا بالآثارِ والسُّنَّةِ.
والعملُ بالقرعةِ بلَغَ التواتُرَ في السُّنَّةِ، وهو قطعيٌّ في الكتابِ؛ قال أبو عُبَيْدٍ: "وقد عَمِلَ بالقرعةِ ثلاثةٌ مِن الأنبياءِ: يونُسُ وزكريَّا ونبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -".
وثبَتَتِ القُرْعةُ في السُّنةِ في أحاديثَ كثيرةٍ، في "الصحيحينِ"، وغيرِهما:
منها: حديثُ عائشةَ؛ قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أرَادَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ؛ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بها مَعَهُ" (١).
وجاء مِن حديثِ زينبَ وغيرِها.
ومنها: حديثُ أبي هريرةَ؛ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لم يَجِدُوا إِلَّا أن يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ، لَاسْتَهَمُوا)؛ رواهُ الشيخانِ (٢).
ومنها: حديثُ النُّعْمانِ بنِ بَشِيرِ مرفوعًا: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ... )؛ الحديث؛ رواهُ البخاريُّ وغيرُه (٣).
ومنها: حديثُ أمِّ سلمةَ؛ قالتْ: أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوَارِيثَ لَهُمَا، لم تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إِلا دَعْوَاهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - , فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَبَكَى الرَّجُلَانِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَقِّي
(١) أخرجه البخاري (٢٥٩٣) (٣/ ١٥٩)، ومسلم (٢٧٧٠) (٤/ ٢١٢٩).
(٢) أخرجه البخاري (٦١٥) (١/ ١٢٦)، ومسلم (٤٣٧) (١/ ٣٢٥).
(٣) أخرجه البخاري (٢٤٩٣) (٣/ ١٣٩).