حتى لا يتأثَّرَ الناسُ بدِينِه، فيظُنُّوا أنَّ قُربَهُ للسلطانِ والحاكمِ لأجلِ دِينِه، فيُعجَبون به؛ لأنَّ الناسَ تُريدُ القُرْبَ مِن السلطانِ وتُحاكِي حاشيتَهُ وبِطانَتَه، وربَّما البطانةُ الكافرةُ والمنافقةُ تُحسِنُ مرةً ومراتٍ، وعامًا أو أعوامًا، وإذا أساءَتْ، تَرَبَّصَت فأثْخَنَتْ وضَرَّتْ وهَدَمَتْ إحسانَها في أعوامٍ؛ وذلك لأنَّها تُحسِنُ حبًّا لدُنياها وحُظْوتِها ومكانتِها، فإذا خَشِيَتِ الزوالَ أو خافتْ على نفسِها, لم يكنْ لها دِينٌ يَصُونُ رَأْيَها وفِعْلَها.
وكذلك: فإنَّ عدمَ اتِّخاذِهم مِن تعظيمِ اللهِ وإجلالِه؛ فلا يُقرَّبُ مَن أَبْعَدَهُ اللهُ، ولا يُؤتَمَنُ مَن خوَّنَه اللهُ، ولا يُصدَّقُ مَن كذَّبَه اللهُ.
أنواعُ البطانةِ:
والبطانةُ على نوعَيْنِ: بطانةُ تخييرٍ، وبطانةُ تقديرٍ:
الأُولى: بطانةُ تخييرٍ؛ وهي مَن يَملِكُ الإنسان اتِّخاذَها باختيارِهِ وإرادتِه؛ فلا يجوزُ للمسلمِ أنْ يتَّخِذَ بطانةً مِن الكافِرينَ والمنافِقينَ.
الثانيةُ: بطانةُ تقديرٍ؛ وهي التي يَبتَلِي اللهُ بها الإنسانَ بلا اختيارٍ منه؛ فتقرُبُ منه طلبًا للمصلحةِ وتسلُّلًا إلى دِينِهِ ودُنياهُ لِتَنتفِعَ منه، وهي مِن جُمْلةِ الابتلاءِ الذي يُقدِّرُهُ اللهُ على العبدِ؛ كالأمراضِ والأَسْقَامِ، والمصائب والهمومِ والجراحاتِ؛ فهذا النوعُ ابتلاءٌ وامتحانٌ يقعُ حتى للأنبياءِ والأولياءِ؛ ففي البخاريّ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: (مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، ولا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كانت لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْه، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ, فَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى) (١).
فالأنبياءُ لا يَختارُونَ بطانةَ الشرِّ، ولكنْ يُبتَلَوْنَ بها، يتقرَّبونَ منهم
(١) أخرجه البخاري (٧١٩٨) (٩/ ٧٧).