والمقصودُ بالرشدِ في هذا الموضعِ؛ الانفرادُ بإحسانِ تدبيرِ المال، ولو كان اليتيمُ لا يُحسِنُ في غيرِ المالِ؛ كمَن يُقصِّرْ في عبادتِه، ولكنَّه حريصٌ على دُنياهُ، مُتَوَقٍّ لبذلِهِ في حرامٍ وسَرَفٍ؛ ولذا قال ابنُ عبَّاسٍ: "إذا عرَفْتُم رشدًا في حالِهم، والإصلاحَ في أموالِهم"؛ رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، بسندٍ صحيحٍ (١).
والرشدُ: هو الشدَّةُ في حِياطَةِ المال، وحمايتُهُ والدفعُ عنه مِن المَكْرِ والخديعةِ والقُوَّةِ؛ ويفسِّرُ هذا قولُهُ تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} الأنعام: ١٥٢، والإسراء: ٣٤.
والرشدُ قد يُصاحِبُ البلوغَ وقد يتأخَّرُ عنه، ولكنَّه لا يَسبِقُهُ حُكْمًا، ولو سَبَقَهُ حقيقةً، فَعُرِفَ في الصبيِّ نجابةُ ونباهةُ الشيوخ، فلا يُدفَعُ إليه المالُ حتى يبلُغَ.
وللرشدِ علاماتٌ؛ كصلاحِ الدِّينِ وخشيةِ اللهِ؛ قال عَبِيدَةُ بنُ عمرٍو: "إذا أقام الصلاةَ، رشَدَ" (٢).
حَدُّ بلوغِ الرُّشدِ:
ولا حَدَّ للمدةِ التي يظهَرُ فيها الرشدُ، وما يذكُرُهُ الفقهاءُ، فهو تعليقٌ للأغلبِ مِن حالِ الغِلْمانِ بعدَ بلوغِهم؛ وهذا لا يَطَّرِدُ بكلِّ حالٍ، ولا يستقيمُ في كلِّ غلامٍ؛ ولهذا قيَّدَ اللهُ معرِفةَ الرشدِ بالابتلاءِ والاختبار، لا بمدةٍ كعامٍ أو عامَيْنِ؛ لعدمِ انضباطِ ذلك.
ثمَّ بيَّنَ اللهُ أنَّ المالَ حقٌّ لهم يُدفَعُ إليهم متى ارتفَعَ مُوجِبُ الحَجْرِ والوصاية، ولا يجوزُ حبسُ مالِ اليتيم عنه عندَ جوازِ تصرُّفِهِ وتمامِ رشدِهِ إلا بإذنِه؛ قال تعالى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.
(١) "تفسير ابن أبي حاتم" (٣/ ٨٦٥).
(٢) "تفسير ابن أبي حاتم" (٣/ ٨٦٦).