ثمَّ بيَّنَ اللهُ عِصْمةَ مالِ الزوجةِ ومهرِها، وأنَّه لا يجوزُ أَخْذُهُ لمجرَّدِ مُفارقتِها؛ لِيَنْكِحَ الرجلُ زوجةً أُخرى بمهرِها، وقولُه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}؛ يعني: ولو كان مهرُها كثيرًا كقِنْطارِ الذهبِ، فلا يجوزُ أخذُ شيءٍ منه ولو قَلَّ، وبيَّنَ أنَّ أَخْذَهُ كبيرةٌ: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، وقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ}، وهذانِ استفهامانِ استنكاريَّانِ.
وقولُه: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}؛ أيْ: تَبَادَلْتُما الحقوقَ والنفعَ والإحسانَ بالعِشْرةِ والجِمَاعِ؛ كما قاله ابنُ عبَّاسٍ (١).
وقولُه: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}؛ يعني: عقدَ النِّكَاحٍ والمهرَ معه باستحلالِ فَرْجِها به: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} النساء: ٤؛ فما تَملَّكْنَهُ لا يُؤخَذُ منهنَّ بغيرِ حقٍّ.
حكمُ الخُلْعِ قبل الدخولِ:
وقد أخَذَ بعضُ العلماء مِن مفهومِ خِطابِ الآيةِ: جوارَ المخالَعةِ قبلَ إفضاءِ الزوجَيْنِ بعضِهما إلى بعضٍ، وقبلَ الدخولِ؛ وبهذا قال الشافعيُّ.
وذهَبَ مالكٌ وأبو حنيفةَ: إلى أنَّ الخُلْعَ قلَ الخَلْوَةِ بالزوجةِ جائزٌ؛ لمفهومِ الآيةِ، ولو لم تأتِ الزوجةُ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ؛ لعدمِ الإفضاءِ بينَهما والمعاشرةِ التي قُيِّدَ تحريمُ أخذِ المالِ لأجلِه.
والأظهَرُ: أنَّ الآيةَ عامَّةٌ، والتعليلَ بالإفضاءِ للغالبِ مِن حالِ الزوجَيْنِ: أنَّهما يتفارَقانِ بعدَ الدخُولِ لا قَبْلَه، وللتنفيرِ ممِّا يُستقبَحُ أنْ يُؤخَذَ المهرُ بعدَ ما كان بينَهما مِن عِشْرةٍ وإفضاءٍ؛ فالنهيُ في الآيةِ عامٌّ، والتعليلُ للعمومِ لا للتقييد، وكذلك لعمومِ آيةِ البقرةِ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
(١) "تفسير الطبري" (٦/ ٥٤٢)، و"تفسير ابن المنذر" (٢/ ٦١٦)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٣/ ٩٠٨).