جعَلَ اللهُ الحقَّ فيها لأصحابِها؛ لا تَذهَبُ الحقوقُ إلَّا بأدائِها أو عفوِ أصحابِها عنها؛ فأعظَمُ الخواتيِم منزلةً خاتمةُ الشهيد، فيُكفَّرُ عنه كلُّ ذنبِهِ إلَّا الأماناتِ والحقوقَ؛ فقد روى زاذانُ، عن ابنِ مسعودٍ؛ قال: "الشهادةُ تُكفِّرُ كلَّ ذنبٍ إلا الأمانة" (١).
وإن لم يَختلِفِ السلف في وجوبِ أداء الأماناتِ عامَّةً إلى أهلِها، فقد اختلَفُوا في المُخاطَبِ بهذه الآيةِ:
فقيل: كلُّ أمانةٍ وحقٍّ؛ وهذا ظاهرُ ما جاء عن ابنِ مسعودِ وابنِ عبَّاسٍ والربيعِ وغيرِهم.
وجاء عن بعضِ السلفِ: أنَّ الخِطابَ للأمراءِ أن يَعِظُوا النِّساءَ بحفظِ حقوقِ أزواجِهِن، ويأمُرُوا الناسَ بالحقِّ والعدلِ.
ورُوِيَ نحوُ هذا عن عليِّ بن أبي طالبٍ، ورواهُ عليُّ بن أبي طَلْحةَ عن ابنِ عبَّاسٍ، وقال به زيدُ بن أسلَم؛ رواهُ ابن أبي حاتمٍ (٢).
وهذا هو الأظهَرُ؛ أنَّ الخِطَاب لكلِّ أحدٍ، ولكن خُوطِبَ فيه الأُمَراءُ والحُكَّامُ والقُضَاة؛ لأنَّ اللهَ ذكَرَ الحُكمَ بعدَ ذلك للمخاطَبِينَ، والحُكمُ لا يكون إلا في الحُكَّامِ والسلاطِينِ؛ وذلك في قوله تعالى {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}.
ويَعْضُدُ أنَّ الخِطَابَ للأمراءِ والحُكَّام: أنَّ اللهَ أمَرَ بطاعتِهم فيما بعدَ ذلك في الآية التاليةِ: " {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} النساء: ٥٩.
تعظيمُ العَدلِ مع كلِّ أحدٍ:
والعدلُ واجبٌ ولو مع الكافِرِ والفاجِرِ.
ولا يكونُ العدلُ إلَّا بما أمَرَ الله به وقَضاهُ، ولعِظَمِ العدلِ وجريمةِ الظُّلمِ: جعَلَ اللهُ الفِطْرةَ دالَّةً عليه؛ كما تدُلُّ الفِطْرةُ على وجودِ الخالِقِ
(١) "تفسير ابن أبي حاتم" (٣/ ٩٨٥).
(٢) "تفسير ابن أبي حاتم" (٣/ ٩٨٦).