التَّلبُّسِ بتلك الأحكامِ المبدَّلةِ؛ فلا يجبُ عليهِمُ الهِجْرةُ مِنْ بلدِهم حينئذٍ؛ بشرطِ أنْ يَقدِروا عَلَى إظهارِ الدِّينِ وشعائرِه، وبيانِ حُكْمِ الحاكِمِ والمُتحاكِمِ إلى غيرِ حُكمِ الله، والتربُّصِ بالحاكمِ وعزلِهِ عَلَى مراتبِ القُدْرةِ والقُوَّةِ والتمكينِ.
وذلك أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عَلَيْهِ وسلم - بدأَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ آياتُ الحدودِ والعقوباتِ والعقودِ في القرآنِ والسُّنَّة، وجماعةٌ مِن أصحابِه في الحبَشة، ولا يُقامُ فيها حُكمُ الله، فلم يأمُرُهُم بتَرْكِ الحبَشةِ واللِّحَاقِ به في المدينة، ولمَّا جاءَ جعفرٌ ومَن معَهُ بعدَ خَيْبَرَ مِنَ الحبَشةِ إلى المدينةِ في السنةِ السابعةِ مِن الهجرة، لم يُنكِرْ عليهم تأخُّرَهم، وقد بَقُوا في الحبشةِ بعدَ بَدْءِ نزولِ آياتِ الحدود والعقودِ أعوامًا.
ولأنَّ الأحكامَ تتعلَّقُ بالأفرادِ غالبًا، وتعلُّقُها بالجماعاتِ نادرٌ؛ كالقَسَامَةِ وشِبْهِها، والتلبُّسُ لها قليلٌ في الأفراد، ويتمكَّنُ المؤمنُ ممَّا تَعُمُّ به البَلْوى أنْ يُقِيمَهُ ويَقضِيَ به عَلَى نفسِهِ ومَن معَه؛ كعُقُودِ النِّكاحِ والمواريثِ، والطَّلاقِ والعِدَد، والمعامَلاتِ؛ فهو قادرٌ غالبًا عَلَى عدمِ التلبُّسِ بالحُكْمِ المخالفِ لحُكمِ اللهِ.
وأمَّا ما يُوجِبُ الحدودَ والعقوبات، فالأصلُ عدمُ وقوعِها مِنَ المؤمن، وإنْ وقعَت منه لم يقل أحدٌ مِن العلماءِ: إنَّ مِن الكفرِ تَرْكَ المسلِمِ المحكومِ لإقامةِ الحدِّ عَلَى نفسِه، وتَرْكَ رفعِ أمرِ مَن أصابَ حدًّا مِن أهلِهِ للسُّلْطانِ القائمِ بأمرِ اللهِ عندَ وجودِه؛ فكيفَ عندَ عدمِ وجودِه؟ !
وإنَّما نصوصُ الوحي وكلامُ العلماءِ في مسألةِ نزولِ المُتحاكِمِ مختارًا لغيرِ حُكْمِ الله، وكذلَك حُكْمُ السلطانِ بغيرِ حُكمِ اللهِ وتشريعِه.
الحالةُ الثانيةُ: إنْ كانتِ الأحكامُ المبدَّلةُ عن حُكمِ اللهِ في بلدِ المُسلِمينَ تَعُمُّ بها البلوى لعمومِ الناسِ؛ كالإلزامِ بها والمُعاقَبَةِ عَلَى تركِها