ثامناً: على المفسِّر بعد كل هذا أن يكون يقظاً، فطناً عليماً بقانون الترجيح، حتى إذا ما كانت الآية محتملة لأكثر من وجه أمكنه أن يُرَجِّح ويختار.
وإذا كان المفسِّر لا بد له من أن يحتكم إلى قانون الترجيح عندما تحتمل الآية أكثر من وجه، فإنَّا فى حاجة إلى بيان هذا القانون، الذى هو الحَكَم الفصل عند تزاحم الوجوه وكثرة الاحتمالات، فنقول:
قانون الترجيح فى الرأى
أجمع كلمة قيلت فى بيان هذا القانون، هى الكلمة التى نقلها لنا السيوطى فى كتابه الإتقان عن البرهان للزركشى، ونرى أن نسوقها هنا نقلاً عن الإتقان، ونكتفى بذلك لما فيها من الكفاية:
قال الزركشى رحمه الله تعالى: "كل لفظ احتمل معنيين فصاعداً هو الذى لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأى، فإن كان أحد المعنيين أظهر، وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفى.
وإن استويا، والاستعمال فيهما حقيقة، لكن فى أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفى الآخر شرعية، فالحمل على الشرعية أولى، إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية، كما فى قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} التوبة: ١٠٣ .. ولو كان فى أحدهما عرفية، والآخر لغوية، فالحمل على العرفية أولى. وإن اتفقا فى ذلك أيضاً، فإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد، كالقُرء للحيض والطُهر، اجتهد فى المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو مراد الله تعالى فى حقه. وإن لم يظهر له شئ فهل يتخيَّر فى الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكماً؟ أو بالأخف؟ أقوال. وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ فى الإعجاز والفصاحة، إلا إن دَلَّ دليل على إرادة أحدهما".
* *
* منشأ الخطأ فى التفسير بالرأى:
يقع الخطأ كثيراً فى التفسير من بعض المتصدرين للتفسير بالرأى، الذين عدلوا عن مذاهب الصحابة والتابعين، وفسَّروا بمجرد الرأى والهوى، غير مستندين إلى تلك الأصول التى قدَّمنا أنها أول شئ يجب على المفسِّر أن يعتمد عليه. ولا متذرعين بتلك العلوم التى هى فى الواقع أدوات لفهم كتاب الله والكشف عن أسراره ومعانيه.