مذهبها وتُدعِّم تعاليمها على أُسس دينية من القرآن، وكان لا بد لها أيضاً أن ترد الحجج القرآنية لهؤلاء الخصوم، وتضعف من قوتها، وسبيل ذلك كله هو النظر إلى القرآن أولاً من خلال عقيدتهم، ثم إخضاعهم عبارات القرآن لآرائهم التى يقولون بها، وتفسيرهم لها تفسيراً يتفق مع نحلتهم وعقيدتهم.
ولا شك أن مثل هذا التفسير الذى يخضع للعقيدة، يحتاج إلى مهارة كبيرة، واعتماد على العقل أكثر من الاعتماد على النقل، حتى يستطيع المفسِّر الذى هذا حاله، أن يلوى العبارة إلى جانبه، ويصرف ما يعارضه عن معارضته له وتصادمه معه.
والذى يقرأ تفسير المعتزلة، يجد أنهم بنوا تفسيرهم على أُسسهم من التنزيه المطلق، والعدل وحرية الإرادة، وفعل الأصلح.. ونحو ذلك، ووضعوا أسساً للآيات التى ظاهرها التعارض فَحَكَّمُوا العقل، ليكون الفيصل بين المتشابهات وقد كان مَن قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة أو التابعين، فإذا جاءوا المتشابهات سكتوا وفوَّضوا العلم لله.
* *
* إنكار المعتزلة لما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة:
ثم إن هذا السلطان العقلى المطلق، قد جَرَّ المعتزلة إلى إنكار ما صح من الأحاديث التى تناقض أسسهم وقواعدهم المذهبية، كما أنه نقل التفسير الذى كان يعتمد أولاً وقبل كل شئ على الشعور الحى، والإحساس الدقيق، والبساطة فى الفهم وعدم التكلف والتعمق، إلى مجموعة من القضايا العقلية، والبراهين المنطقية، مما يشهد للمعتزلة - رغم اعتزالهم - بقوة العقل وجودة التفكير.
ومع أن هذا السلطان العقلى المطلق، كان له الأثر الأكبر فى تفسير المعتزلة للقرآن، حتى اضطرهم فى بعض الأحيان إلى رد ما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة، فإنَّا لا نستطيع أن نقول أن نقول إن المعتزلة كانوا يقصدون الخروج على الحديث أو عدم الاعتراف بالتفسير المأثور، وذلك لأن حالهم بإزاء التفسير المأثور وتصديقهم له، يظهر بأجلى وضوح من حكم النظام على استرسال المفسِّرين من معاصريه.
وكان "النظام" معتبراً فى مدرسة المعتزلة من الرؤوس الحرة الواسعة الحرية وقد ذكر لنا تلميذه الجاحظ قوله الذى قاله فى شأن هؤلاء المفسِّرين، وهذا نصه: قال الجاحظ: "كان أبو إسحاق يقول: لا تسترسلوا إلى كثير من المفسِّرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا فى كل مسألة، فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس وكلما كان المفسِّر أغرب عندهم كان أحب إليهم، وليكن عندكم عِكرمة، والكلبى، والسدىّ، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، وأبو بكر الأصم فى سبيلٍ واحدة، وكيف أثق بنفسيرهم وأسكن إلى صوابهم وقد قالوا فى قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} :