صحيحا في حقّ من يكتفى بتقليدك -وإنك لخليق بذلك- من الفقهاء، أو المحدثين ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد في معرفة الصحيح والسقيم.
وقد نحا نحوًا من مذهبك الإمام أبو حاتم البستيُّ فيما حَكَى عن نفسه في صدر كتابه الذي وسمه بكتاب "المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قَطعٍ في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقليها": ما نصه: "إذا صَحّ عندي خبر من رواية مدلس بأنه بَيَّنَ السماع فيه لا أُبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر". انتهى (١).
فلا يُنكر أيها الإمام الْمُعْتَمَدُ أن يكون مَنْ قَبِل تلك الأحاديث، وصحت عنده، واحتج بها قد اعتَمَد نحوًا من هذا المسلك، فلم يقبلها بمجرد العنعنة، بل بضميمةٍ إليها أفادته صحة اللقاء والسماع، وإن لم يقترن بها ذلك لفظًا.
وقد وقع للإمام أبي عبد الله البخاري في "جامعه الصحيح" ما يَنظُر إلى هذا المعنى، وهو ما ذكره في "كتاب الصلاة" من كتابه في "باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة"، قال فيه: نا آدم، قال: نا شعبة قال: نا الأزرق بن قيس، قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جُرُف نهر، إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجَعَلتِ الدابة تنازعه، وجعل يتبعها -قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي (٢) - فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ، فلما انصرف قال: إني سمعت قولكم، وإني غزوت معِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ست غزوات، أو سبع غزوات، أو ثمان، وشهدت تيسيره، وإني أنْ كنت أن أرجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلى مألفها، فيشق علي.
فهذا الأزرق بن قيس البصري، من بلحارث بن كعب من التابعين، قال أبو حاتم فيه: صالح الحديث، وقال ابن معين، والنسائيّ، وغيرهما فيه: ثقة، لم يَعرِف أبا برزة، ولا يَثبُتُ قول قائل لا يُعرَف صدقُه مُخبرًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سمعه قال كذا، أو أنه رآه فعل كذا، إلا بعد ثبوت صحبته، أو ثبوت عدالته قبل أن يُخبر أنه صاحب، على نظر في هذا القسم الآخر، فإنه إذا قال لنا من عاصره -صلى الله عليه وسلم-، ممن ثبت إسلامه وعدالته: أنا صاحبٌ صُدِّقَ، وقُبِل قولُهُ، وسُمِعت روايته.
(١) انظر "صحيحه" ٢/ ٨١.
(٢) وأبو بَرْزَة اختُلِف في اسمه، واسم أبيه، فقيل: نَضْلَة بن عُبَيد، قال بعض المتقنين: وعليه أكثر العلماء، وقيل: نضلة بن عائذ. وقيل: عبد الله بن نَضْلَة، وقيل: غير ذلك، وأصله مدنيّ، نزل البصرة. انتهى "السنن الأبين" ص ١٥٧.