وفي بعض كلامه نظرٌ فليسا سواء، وتشبيهه بحال الثقة إذا أخطأ لا يُسَاعَد عليه، أما ما رُوي عنهم قبل الاختلاط، وتَمَيَّز مما رُوي بعده فلا إشكال فيه، وأما ما رُوي عنهم مستقيما بعد الاختلاط ففيه نظر، وقد أنكره يحيى بن معين على وكيع، وقال له: تُحَدّث عن سعيد بن أبي عروبة، وإنما سمعت منه في الاختلاط، فقال رأيتَنِي حدثتُ عنه إلا بحديث مستو؟ .
فإنه إن كان الاعتماد على الثقات الذين وافقوهم دونهم، فلم يُعتَمَد عليهم، في الفائدة في تخريج الحديث عنهم، دون أولائك الثقات، وإن كان الاعتماد على الرواة عنهم، وعلى ما قرؤوه عليهم من صحيح كتبهم التي كتبوها في حال الصحة، أو التي كَتَب عنهم أصحابهم قبل الاختلاط، كما قال ابن معين: سمعت ابن أبي عدي يقول: لا نكذب الله كنا نأتي الْجُرَيري، وهو مختلط، فنُلَقِّنُه، فيجيء بالحديث كما هو في كتابنا، فقد حصل في الحديث انقطاع، وصار وجودهم كعدمهم، ولا فرق بين أن يُقرأ عليه، وهو مختلط، وأن يقرأ على قبره وهو ميت، فآل الأمر إلى الاعتماد على الوِجَادة.
وأحسنُ ما يُلتَمس لهم أنهم لم يَفرُط الاختلاط فيهم، بحيث يكونون مُطبَقِين، أو كانت لهم أوقاتٌ تَثُوب إليهم عقولهم فيها، فيتحين الآخذون عنهم تلك الأوقات، ويقرأون عليهم مِنْ كتبهم، أو كتب أصحابهم، أو يسمعون منهم ما حَفِظوه مما تظهر لهم السلامة فيه.
هذا هو الذي يَجِب أن يُعتَقَد فيمن رَوَى عنهم من الثقات، وعلى ذلك يُحمَلُ فعل وكيع بن الجراح وغيره، ممن فعله، وإلا عاد ذلك بالقدح على الرواة عنهم، على أن أبا حاتم البستيَّ، وإن كان من أئمة الحديث، فعنده بعض التساهل في القضاء بالصحيح، فما حَكَمَ بصحته مما لم يَحكُم به غيره، إن لم يكن من قبيل الصحيح، يكون من قبيل الحسن، وكلاهما يُحتَجّ به، ويُعمَل عليه، إلا أن يَظهَر فيه ما يوجب ضعفه.
ثم اعلم أَيُّها الإمام الْمُتَّبَع الْمُعْتَمَد أنك سميت في جملة مَن ذَكَرتَ أنك لا تَعلَم سماعهم ممن حدّثوا عنه قيسَ بن أبي حازم، عن أبي مسعود، والنعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد، وذكرت غيرهم ممن انفردت عن البخاري بتخريج بعضهم، ولم يُخَرِّجهم لأحد وجهين:
إما لعدم ذلك الشرط عنده، كحديث عطاء بن يزيد الليثي، عن تميم الداريّ، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو أحد مَن سَمَّيت، وانفردتَ بإخراجه عنه، وهو حديث: "الدين النصيحة، لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، خَرَّجته في "كتاب