أحدهما من ستين سنة مثلًا، والآخر من أربعين سنةً، وتَسَاوَى العدد إليهما، فالأول أعلى من الثاني، ويتأكد ذلك في حَقّ من اختلط شيخه أو خرف، وربما كان المتأخر أرجح، بأن يكون تحديثه الأول قبل أن يبلغ درجة الإتقان والضبط، ثم حصل له ذلك بعدُ إلا أن هذا علو معنوي.
تنبيه: جعل ابن طاهر (١)، وابن دقيق العيد هذا والذي قبله قسمًا واحدًا، وزادا العلو إلى صاحبي "الصحيحين"، ومُصنفي الكتب المشهورة، وجعله ابن طاهر اسمين:
أحدهما: العلو إلى الشيخين، وأبي داود، وأبي حاتم، ونحوهم.
والآخر: العلو إلى كتب مصنفة لأقوام كابن أبي الدنيا، والخطابيّ، ثم قال: (واعلم): أن كل حديث عز على المحدث ولم يجده غالبًا، ولا بد له من إيراده، فمن أي وجه أورده فهو عال بعزته، ومَثّل ذلك بأن البخاري رَوَى عن أماثل أصحاب مالك، ثم رَوَى حديثا لأبي إسحق الفزاري عن مالك؛ لمعنى فيه، فكان فيه بينه وبين مالك ثلاثة رجال.
وأما النزول فضد العلو فهو خمسة أقسام أيضا تُعرَف من ضدّها، فكل قسم من أقسام العلو ضده قسم من أقسام النزول، وهو مفضول مرغوب عنه على الصواب، وقول الجمهور، قال ابن المديني: النزول شؤم. وقال ابن معين: الإسناد النازل قرحة في الوجه. وفضّله بعضهم على العلو، حكاه ابن خلاد عن بعض أهل النظر؛ لأن الإسناد كلما زاد عدده زاد الاجتهاد فيه، فيزداد الثواب فيه.
قال ابن الصلاح: وهذا مذهب ضعيف الحجة. قال ابن دقيق العيد: لأن كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها، ومراعاةُ المعنى المقصود من الرواية، وهو الصحة أولى.
فإن تميز الإسناد النازل بفائدة، كزيادة الثقة في رجاله على العالي، أو كونهم أحفظ، أو أفقه، أو كونه متصلا بالسماع، وفي العالي حضور، أو إجازة، أو مناولة، أو تَسَاهَل بعض رواته في الحمل، ونحو ذلك فهو مختار، قال وكيع لأصحابه: الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل، عن عبد الله، أم سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله؟ فقالوا: الأعمش عن أبي وائل أقرب، فقال: الأعمش شيخ، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة، فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه. وقال ابن المبارك: ليس جَودَةُ الحديث قرب الإسناد، بل جودة الحديث صحة الرجال. وقال السِّلَفَيّ: الأصل الأخذ عن العلماء، فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة، على مذهب
(١) سيأتي قريبًا في رسالته، إن شاء الله تعالى.