من هذا البلاء دهرًا طويلًا من الزمن حينما كانوا يُطبِّقون قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} الأنبياء: ٧، فلا يُعرف أحد منهم أنه يقال له: بكري، ولا عمريّ، ولا عثمانيّ، ولا علوي، ولا غير ذلك، نسبة إلى مذهب أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وغيرهم من أكابر الصحابة -رضي الله عنهم-، والتابعين، حتى جاء أهل العصر المتأخّر ممن بعد الأئمة الأربعة، فانتسبوا إليهم، مع أنهم حذّروهم من تقليدهم، وأمروهم باتباع الأدلة، ثم آل الأمر إلى أن لا يروا جواز تقليد غيرهم إلا في حال الضرورة، فقد قال أحدهم، وبئسما قال:
وَجَائِزٌ تَقْلِيدُ غَيْرِ الأَرْبَعَهْ ... لِذِي ضَرُورَةٍ وَفِي هَذَا سَعَهْ
بل قال صاحب "مراقي السعود"، وبئسما قال:
وَالْمُجْمَعُ الْيَوْمَ عَلَيْهِ ألأَرْبَعَهْ ... وَقَفْوُ غَيْرِهَا الْجَمِيعُ مَنَعَهْ
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان على من خالف مذهب خيار الأمة، وللبحث مجالٌ آخر.
ولنرجع إلى المقصود:
اعلم: أن الإمام مسلمًا رحمهُ الله تعالى إمام مجتهد، يدور مع النصوص، فما تخيّله المقلدون من أنه على مذهب فلان، فلما رأوه يوافق رأي ذلك الإمام في بعض المسائل لاتفاق الأدلة، أو لكونه أخذ عنه، أو عمن أخذ عنه، فإن كان هذا مسوّغًا للتقليد، فلنقل: إن الشافعيّ مالكيّ حيث أخذ عنه، وأحمد شافعيّ؛ لأنه أخذ عنه، وهلمّ جرّا، وهؤلاء المدّعون لا يقولون بهذا، بل يتبرؤن منه.
وهذا كلّه يفنّده مخالفته لذلك الإمام في مسائل أخرى، ومعلوم أن المقلّد لا يخالف إمامه أبدًا.
والحقّ أنه على مذهب أهل الحديث، ليس مقلّدًا لأحد، بل هو كالشافعي، وأحمد، وغيره من فقهاء المحدّثين، ولقد أجاد أبو عبد الله الحاكم رحمهُ الله تعالى حيث ذكره ضمن فقهاء المحدّثين، وأفرده بترجمة كباقي الأئمة، كالزهريّ، والأوزاعيّ، وابن عيينة، وابن المبارك، ويحيى القطان، وابن مهديّ، وأحمد بن حنبل، وابن المدينيّ، وغيرهم. وذكر قبل تراجمهم المقصود بفقه الحديث، فقال في (النوع الموفّي العشرين): "معرفة فقه الحديث" إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قوام الشريعة، فأما فقهاء الإسلام، أصحاب القياس والرأي، والإستنباط، والجدل، والنظر، فمعروفون في كلّ عصر، وأهل كل بلد، ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله؛