قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هدا الجمع عندي نظرٌ، لأن الجمع فرع عن الصحّة، وهذه الأقوال لم تصحّ أصلًا، اللهمّ إلا أن يراد الجمع على تقدير الصحّة، وأيضاً أن كون داود، أو يعقوب أول من قالها محلّ توقّف، إذ لغتهما ليست عربيّة. فليتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب.
ولبعضهم نظمًا من الطويل:
جَرَى الْخُلْفُ "أَمَّا بَعْدُ" مَنْ كَانَ قَائِلَا ... لَهَا خَمْسُ أَقْوَالٍ وَدَاوُدُ أَقْرَبُ
وَكَانَتْ لَهُ فَصْلَ الْخِطَابِ وَبَعْدَهُ ... فَقُسٌّ فَسَحْبَانٌ فَكَعْبٌ فَيَعْرُبُ
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ولَمّا أهمل ذكر يعقوب عليه السلام قلت، مع بيان ضعف أسانيد كلّها:
وَقَدْ زِيدَ يَعْقُوبُ النَّبِيُّ عَلَيْهِمُ ... أَسَانِيدُهَا وَهَتْ فَلَيْسَتْ تُرَغِّبُ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثالثة: في الكلام على لفظ "أمّا"، ومعناه (١).
أما لفظها: فإنها -بالفتح، والتشديد- وقد تُبدل ميمها الأولى ياءً؛ استثقالًا للتضعيف، كقول عمر بن أبي ربيعة من الطويل:
رَأَتْ رَجُلًا أَيْمَا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَيْمَا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
وأما معناه: فإنها حرف شرط، وتفصيل، وتوكيد، أما كونها حرف شرط فيدلّ له لزوم الفاء بعدها، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} الآية. وقد يستغنى عنها للضرورة، كما في قوله من البسيط:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلَانِ
ويكثر حذفها مع القول، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)} الآية، والتقدير: فيقال لهم: أكفرتم الخ، فحذف القول، استغناء بالمقول، فتبعته الفاء.
وإلى هذا أشار ابن مالك في "خلاصته" بقوله:
(١) قال أبو جعفر النحّاس، عن سيبويه: "أما بعد": مهما يكن من شيء بعد. وقال أبو إسحاق -يعني الزّجّاج-: إذا كان رجل في حديث، فأراد أن يأتي بغيره قال: أما بعد. وأجاز الفرّاء "أما بعدًا" بالنصب، والتنوين، و"أما بعدٌ" بالرفع، والتنوين. وأجاز ابن هشام "أما بعدَ" بفتح الدال. انظر "عمدة القاري" ج ٥ ص ٣١١. و"فتح الباري" ج ٣ ص ٦٧.