ثم بيّن محترز قوله: "لخاصّة من الناس"، فقال:
(فَأَمَّا عَوَامُّ النَّاسِ) الإضافة بمعنى "من" (الَّذِينَ هُمْ بِخِلَافِ مَعَانِي الْخَاصِّ، مِنْ أَهْلِ التَّيَقُّظِ وَالْمَعْرِفَةِ) بيان لمعاني الخاصّ (فَلَا مَعْنَى لَهُمْ فِي طَلَبِ الْكَثِيرِ) أي فلا فائدة لهؤلاء العوامّ في طلبهم الكثير من أنواع الحديث المشتمل علىَ الصحيح والسقيم؛ لقصور فهمهم عن إدراكه، والغوص في حقائقه (وَقَدْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَةِ الْقَلِيلِ) جملة في محلّ نصب على الحال: أي والحال أنهم قد عجزوا عن معرفة القليل من الحديث.
يقال: "عَجَزَ" -بفتح الجيم- يَعْجِزُ -بكسرها- هذه هي اللغة الفصيحة المشهورة، وبها جاء القرآن العظيم، في قوله تعالى: {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ} الآية المائدة: ٣١، ويقال: عَجِزَ يَعْجَزُ بكسرها في الماضي، وفتحها في المضارع، حكاها الأصمعيّ وغيره، والعجز في كلام العرب أن لا تَقْدِر على ما تريد. قاله النوويّ في "شرحه" (١).
وقال الفيّوميّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: "عجز" بفتح الجيم، يقال: عجز عن الشيء عَجْزًا، من باب ضرب، ومَعْجزة بالهاء، وحذفها، ومع كلّ وجه فتح الجيم وكسرها: إذا ضَعُف عنه، وعجِزَ عَجَزًا، من باب تعِبَ لبعض قيس عَيْلان، ذكرها أبو زيد، وهذه اللغة غير معروفة عندهم، وقد روى ابن فارس بسنده إلى ابن الأعرابيّ أنه لا يُقال: عَجِزَ الإنسان بالكسر إلا إذا عَظُمت عَجِيزته. انتهى (٢).
ثمّ بيّن رَحِمَهُ اللهُ تعالى طريقة تأليفه لهذا الكتاب، فقال:
(ثُمَّ إِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ مُبْتَدِئُونَ فِي تَخْرِيجِ مَا سَأَلْتَ، وَتَأْلِيفِهِ عَلَى شَرِيطَةٍ، سَوْفَ أَذْكُرُهَا لَكَ، وَهُوَ إِنَّا نَعْمِدُ إِلَى جُمْلَةِ مَا أُسْنِدَ مِنَ الأَخْبَارِ عَنْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَنَقْسِمُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، وَثَلَاثِ طَبَقَاتٍ، مِنَ النَّاسِ، عَلَى غَيْرِ تَكْرَارٍ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ مَوضِعٌ لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تَرْدَادِ حَدِيثٍ، فِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى، أَوْ إِسْنَادٌ يَقَعُ إِلَى جَنْبِ إِسْنَادٍ؛ لِعِلَّةٍ تَكُونُ هُنَاكَ؛ لأَنَّ الْمَعْنَى الزَّائِدَ فِي الْحَدِيثِ، الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ، يَقُومُ مَقَامَ حَدِيثٍ تَامٍّ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَنْ يُفَصَّلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِصَارِهِ، إِذَا أَمْكَنَ، وَلَكِنْ تَفْصِيلُهُ رُبَّمَا عَسُرَ، مِنْ جُمْلَتِهِ، فَإِعَادَتُهُ بِهَيْئَتِهِ، إِذَا ضَاقَ ذَلِكَ أَسْلَمُ، فَأَمَّا مَا وَجَدْنَا بُدًّا مِنْ إِعَادَتِهِ بِجُمْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنَّا إِلَيْهِ، فَلَا نَتَوَلَّى فِعْلَهُ، إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى).
(١) "شرح النووي على مسلم" ١/ ٤٨.
(٢) "المصباح المنير" ٢/ ٣٩٣.