قبل كلامه، يقصد به تعظيم مضمون كلامه، وقد ذكره ابن مالك رحمهُ اللهُ تعالى في "الكافية الشافية"، حيث قال:
وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا ... بِجُمْلَةٍ كَإِنَّ ذَا زَيْدٌ سَرَى
لِلابْتِدَا أَوْ نَاسِخَاتِهِ انْتَسَبْ ... إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ
وَإِنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلٍ اسْتَتَرْ ... حَتْمًا وَإِلَّا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ
فِي بَابِ إِنَّ اسْمًا كَثِيرًا يُحْذَفُ ... كَإِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ
وَجَائِزٌ تَأْنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا ... أُنِّثَ أَوْ تَشْبِيهَ أُنْثَى أَفْهَمَا
وَقَبْلَ مَا أُنِّثَ عُمْدَةً فَشَا ... تَأْنِيثُهُ كَإِنَّهَا هِنْدٌ رَشَا (١)
(لَيَمْنَعُنِي) -بفتح اللام- وهي لام الابتداء دخلت للتأكيد، وأصل محلّها اسم "إن"، وإنما أخّرت كراهة اجتماع حرفي تأكيد من غير فاصل، وإلى هذه اللام أشار ابن مالك رحمهُ اللهُ تعالى في "الخلاصة" بقوله:
وَبَعْدَ ذَاتِ الْكَسْرِ تَصْحَبُ الْخَبَرْ ... لَامُ ابْتِدَاءٍ نَحْوُ إِنِّي لَوَزَرْ
وقوله: "يمنعني" بفتح أوله، وثالثه، مصارع منع، يقال: منعته الأمر، ومن الأمر مَنْعًا: إذا حَرَمْته، فهو ممنوعٌ منه: أي محروم، والفاعل مانعٌ، والجمع مَنَعَةٌ - بفتحات- مثلُ كافر وكَفَرَة. وجاء للمبالغة مَنُوعٌ، ومَنّاع. أفاده الفيّوميّ.
(أَنْ) بفتح الهمزة، وسكون النون هي المصدريّة، وقوله: (أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا) في تأويل المصدر مفعول مقدّم لـ "يمنعني": (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ) بفتح همزة "أنّ" والجملة في تأويل المصدر فاعل "يمنعني" مؤخّرًا: والتقدير إنه يمنعني من تحديثكم حديثًا كثيرًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: "من تعمّد الخ".
فإن قلت: الحديث نصّ في كون الوعيد فيمن تعمّد الكذب، ومعلوم أن أنسًا -رضي الله عنه- لا يتعمّد الكذب، فكيف يمنعه هذا الحديث؟ .
قلت: إنما منعه الورع، وشدّة الخوف؛ إذ ربّما يؤدّي كثرة التحديث إلى زيادة شيء في الحديث، أو نقصه، بحيث يحصل التغيير للحديث، فخشي على نفسه الخطأ سهوًا وغفلة؛ لأنه وإن لم يأثم بالسهو والخطإ، إلا أن تغيير الحديث خطر عظيمٌ؛ إذ يترتّب عليه تشريع الأحكام، فلذلك قلّل الرواية؛ ليسلم من معرّة ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.
(مَنْ) شرطيّة (تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا، فَلْيَتَبَوَّأْ) أي فليتّخذ (مَقْعَدَهُ) بفتح الميم، وسكون
(١) راجع "شرح الكافية الشافية" ١/ ٢٣٣ - ٢٣٨.