وقال القاضي عياض رحمهُ اللهُ تعالى: معناه أن من حدّث بكلّ ما سمع، وفيه الحقّ والباطل، والصدق والكذب، نُقل عنه هو أيضًا ما حدّث به من ذلك، فكان من جملة من يروي الكذب، وصار كاذبًا لروايته إياه، وإن لم يتعمّده، ولا عَرَف أنه كذب.
وهو أقوى في الحجة للأشعريّة في أنه لا يُشترط في الكذب العمد من دليل خطاب الحديث المتقدّم. وأما الحديث الآخر الذي ذكره مسلم أول الفصل من حديث سمرة والمغيرة رضي الله عنهما: "من حدّث عنّي حديثًا يُرى أنه كذبٌ، فهو أحد الكاذبين"، فبَيِّنُ المعنى؛ لأنه محدِّثٌ عنه -صلى الله عليه وسلم- بما يقطع، أو يَغلب على ظنّه بطلانه، والمحدث بمثل هذا عنه مفترٍ عليه، وكمتعمّد الكذب عليه، مرتكبٌ لما نهى عنه، فهو أحد الكاذبين.
قال أبو جعفر الطحاويّ رحمهُ اللهُ تعالى: هو داخلٌ في وعيد الحديث فيمن كذب على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. انتهى (١) .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في تخريجه
أخرجه المصنّف رحمهُ اللهُ تعالى هنا ١/ ٥ و ٦ بالأسانيد المذكورة، وأخرجه أبو داود في "سننه" رقم (٤٩٩٢) عن حفص بن عمر، عن شعبة -وعن محمد بن الحسين، عن عليّ بن حفص، عن شعبة- عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- والحاكم في "المستدرك" ١/ ١١٢، وقال: صحيح الإسناد. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية) في بيان اختلاف إسناد هذا الحديث بالوصل والإرسال
اعلم: أنّ المصنّف رحمهُ اللهُ تعالى أخرج هذا الحديث هنا من طريق معاذ بن معاذ، وعبد الرحمن بن مهديّ، كلاهما عن شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، فإن حفصا تابعيّ، كما سبق في ترجمته، وأخرجه في الرواية التالية: من طريق علي بن حفص، عن شعبة، عن خبيب، عن حفص، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- موصولًا.
قال الدارقطنيّ رحمهُ اللهُ تعالى: الصواب المرسل عن شعبة، كما رواه معاذ، وابن مهديّ، وغندر.
(١) "إكمال المعلم" ١/ ١١٤ - ١١٥.