عنهم ممن حدّث عن متأخّري الصحابة، وعن التابعين، فذلك محلّ الخلاف، والصواب قبول المراسيل إذا كان المرسل مشهور المذهب في الجرح والتعديل، وكان لا يُحدّث إلا عن العدول. كما أوضحناه في الأصول. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المرسل عند المحدّثين ضعيفٌ بلا خلاف؛ للانقطاع، كما سيأتي للمصنّف قوله: "والمرسل من الروايات في أصل قولنا، وقول أهل العلم بالأخبار ليس محلّ حجة الخ"، وأما عند غيرهم ففيه أقوال كثيرة، وأصحها وأعدلها ما ذهب إليه الإمام الشافعيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنه يقبل بشروط ثلاثة في المرسِل بالكسر، وثلاثة في المرسل بالفتح، وسيأتي تفصيل ذلك عند شرح قول المصنّف المذكور، إن شاء الله تعالى.
(فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ) -بكسر، فسكون-: هي المحنة، والابتلاء، والجمع فِتَنٌ، وأصل الفتنة من قولك: فَتَنتُ الذهب والفضّة: إذا أحرقته بالنار؛ لِيَبِين الجيّد من الرديء. قاله الفيّوميّ (١). والمراد بها هنا فتنة العقائد، حيث خالفت طائفة أهل السنة والجماعة، كالخوارج، والروافض، ونحوهم.
وقال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هذه الفتنة يعني بها -والله أعلم- فتنة قتل عثمان -رضي الله عنه-، وفتنة خروج الخوارج على عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، فإنهم كفّروهما، واستحلّوا الدماء والأموال. وقد اختُلف في تكفير هؤلاء، ولا يُشَكُّ في أنّ من كفّرهم لم يقبل حديثهم، ومن لم يُكفّرهم اختلفوا في قبول حديثهم، كما بيّنّاه فيما تقدّم، فيعني بذلك -والله أعلم- أنّ قَتَلَة عثمان، والخوارج لَمّا كانوا فُسّاقًا قطعًا، واختلطت أخبارهم بأخبار من لم يكن منهم، وجب أن يُبحَثَ عن أخبارهم، فتُردّ، وعن أخبار غيرهم ممن ليس منهم، فتُقبَل، ثم يجري الحكم من غيرهم من أهل البدع كذلك.
ولا يَظنُّ أحدٌ له فهم أنه يعني بالفتنة فتنة عليّ، وعائشة، ومعاوية رضي الله عنهما؛ إذ لا يصحّ أن يقال في أحد منهم مبتدعٌ، ولا فاسقٌ، بل كلّ منهم مجتهدٌ، عَمِلَ على حسب ظنّه، وهم في ذلك على ما أجمع عليه المسلمون في المجتهدين من القاعدة المعلومة، وهي أن كلّ مجتهد مأجور، غير مأثوم، على ما مهّدناه في الأصول. انتهى (٢).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كلامه هذا أيّما إجادة، وأفاد أيّما إفادة، فإن بعض من لا فهم له حمل الفتنة المذكورة في كلام ابن سيرين رَحِمَهُ اللهُ تعالى هذا على فتنة حرب عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، فقد كتب الدكتور
(١) "المصباح المنير" ٢/ ٤٦٢.
(٢) "المفهم" ١/ ١٢٢ - ١٢٣.