وَلابْنِ مَعِينٍ فِي الرّجَالِ مَقَالَةٌ ... سَيُسْأَلُ عَنْهَا وَالْمَلِيكُ شَهِيدُ
فَإِنْ تَكُ حَقَّا فَهْيَ فِي الْحُكْمِ غِيبَةٌ ... وَإِنْ تَكُ زُورًا فَالْقِصَاصُ شَدِيدُ
ثم أخرج بسنده عن محمد بن الفضل العباسي، قال: كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم، وهو يقرأ علينا "كتاب الجرح والتعديل"، فدخل عليه يوسف بن الحسين الرازي، فقال له: يا أبا محمد، ما هذا الذي تقرؤه على الناس؟ قال: كتاب صنفته في الجرح والتعديل، قال: وما الجرح والتعديل؟ قال: أُظهر أحوال أهل العلم، من كان منهم ثقة، أو غير ثقة، فقال له يوسف بن الحسين: استحييت لك يا أبا محمد، كم من هؤلاء القوم حَطّوا رواحلهم في الجنة، منذ مائة سنة، ومائتي سنة، وأنت تذكرهم، وتغتابهم على أديم الأرض، فبكى عبد الرحمن، وقال: يا أبا يعقوب لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفى هذا الكتاب، لما صنفته (١).
قال الخطيب رحمه الله تعالى: وليس الأمر على ما ذهبوا إليه؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، وفي ذلك دليل على جواز الجرح لمن لم يكن صدوقا في روايته، مع أن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد وردت مصرحة بتصديق ما ذكرنا، وبضد قول من خالفنا، ثم أخرج بسنده عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رجلا استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ائذنوا له فبئس رجل العشيرة ... " الحديث، وقد تقدّم.
ففي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل: "بئس رجل العشيرة" دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل ليس بغيبة، إذ لو كان ذلك غيبة لَمَا أطلقه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما أراد عليه السلام بما ذَكر فيه -والله أعلم- أن يُبَيِّنَ للناس الحالة المذمومة منه، وهي الفحش، فيجتنبوها، لا أنه أراد الطعن عليه، والثَّلْب له، وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة، إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل؛ لئلا يَتَغطّى أمره على من لا يَخبُره، فيظنه من أهل العدالة، فيحتج بخبره، والإخبار عن حقيقة الأمر، إذا كان على الوجه الذي ذكرناه لا يكون غيبة. ومما يؤيد ذلك حديث فاطمة بنت قيس، ثم أخرجه، وقد تقدّم ذكره.
ثم قال: في هذا الخبر: دلالة على إجازة الجرح للضعفاء، من جهة النصيحة؛ لتُجتَنَب الرواية عنهم، وليُعدَل عن الاحتجاج بأخبارهم؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَمّا ذكر في أبي جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وأخبر عن معاوية أنه صعلوك، لا مال له عند
(١) قلت: في هذه الحكاية نظر لا يخفى؛ لأن ابن أبي حاتم لو ندم على تصنيفه، لما قرأه بعد ذلك، بل أمر بإحراقه، ونحو ذلك. والله تعالى أعلم بصحتها.