أقول: فلان ضعيف، فلان كذاب، فقال أحمد: إذا سكتَّ أنت، وسكتُّ أنا، فمتى يَعرِف الجاهل الصحيح من السقيم؟ . وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: ما تقول في أصحاب الحديث، يأتون الشيخ، لعله أن يكون مرجئا، أو شيعيا، أو فيه شيء من خلاف السنة، أيسعني أن أسكت عنه، أم أحذر عنه؟ فقال أبي: إن كان يدعو إلى بدعة، وهو إمام فيها، ويدعو إليها، قال: نعم تُحَذِّر عنه. انتهى كلام الحافظ أبي بكر الخطيب رحمه الله تعالى، ملخصًا (١).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما سبق مما أورد الأئمة: مسلم، والترمذيّ، والخطيب، وغيرهم رحمهم الله تعالى أنه يجوز جرح الرواة، بل يجب إذا تعيّن على الشخص بأن لا يعرفه غيره، وليس ذلك من الغيبة المحرّمة؛ للأدلة التي ساقوها، من الكتاب والسنة، كقول -عزَّ وجل-: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية الحجرات: ٦، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الآية الطلاق: ٢. وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} الآية البقرة: ٢٨٢، وعدالة الشخص، وكونه مرضيّا لا يحصلان إلا بذكر ما فيه من المناقب، والمثالب، فدلت الآيات على ما قلنا، وقد تقدّمت أحاديث كثيرة دالّة على ذلك.
وقد أشرت إلى ما تقدم في "شافية الْغُلَل"، حيث قلت:
أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالتَفْصِيلِ ... عَلَى جَوَازِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ
إِذْ فِيهِ تَمْيِيزٌ لِمَا قَدْ يُقْبَلُ ... مِنْ ضِدِّهِ مِنَ الْحَدِيثِ فَاقْبَلُوا
وَعَابَهُمْ بَعْضٌ مِنَ الْجَهَلَةِ ... وَقَالَ إِنَّ ذَا صَرِيحُ الْغِيبَةِ
وَذَا لِجَهْلِهِ فَلَيْسَ مِنْهُ ذَا ... فَشَاهِدُ الزُّورِ بِجَرْحٍ نُبِذَا
بِلَا خِلَافٍ وَهْوَ قَدْ يَخْتَصُّ ... فَكَيْفَ مَا يَعُمُّ يَا مُخْتَصُّ
إِذِ الْحَدِيثُ يَأْتِي لِلتَّحْلِيلِ ... وَنَحْوِهِ مِنْ شَرْعِنَا الْجَمِيلِ
وَذَلِكَ الشَّرْعُ يَكُونُ دَائِمَا ... عَلَى الْمُكَلَّفِينَ حُكْمًا لَازِمَا
لِذَا يَكُونُ الاحْتِيَاطُ أَوْجَبَا ... مِنْ غَيْرِهِ فَاسْلُكْ طَرِيقَ النُّجَبَا
فَأَنْتَ لَوْ أَقْرَضتَ شَخْصًا عَشَرَهْ ... وَبَعْدَ فَتْرَةٍ مَضَتْ قَدْ أَنْكَرَهْ
لاحْتَجْتَ لِلْعُدُولِ فِي اسْتِحْقَاقِ ... فَكَيْفَ بِالدِّينِ الْحَنِيفِ الْبَاقِي
وَالأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ {تَبَيَّنُوا} ... فِي نَبَإِ الْفَاسِقِ أَمْرٌ بَيِّنُ
قَالَ النَّبِيُّ قَادِحًا لِذِي أَذَى ... "بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرِ" صَاحِبُ الْبَذَا
و"نِعْمَ عَبْدُ اللهِ" قَالَ مَادِحَا ... كَذَا لِفَاطِمَةَ قَالَ نَاصِحَا
(١) "راجع "الكفاية في علم الرواية" ص ٨١ - ٩٢.