وأن لا تحمله القرابة على العدول عن قول الحقّ في الراوي، وقد ضرب العلماء في هذا أورع مثل، فقد قال ابن المدينيّ عن أبيه: إنه ضعيف، وقال محمد بن أبي السريّ، عن أخيه الحسين بن أبي السريّ: لا تكتبوا عن أخي فإنه كذّاب، وقال عنه أبو عروبة الحرانيّ: هو خال أمي، وهو كذّاب.
وإلى ما ذُكر أشرت في "شافية الْغُلَل" بقولي:
الْعِلْمُ وَالتَّقْوَى وِصِدْقٌ وَوَرَعْ ... شُرُوطُ مَنْ عَدَّلَ أَوْ جَرْحًا وَضَعْ
أَمَانَةٌ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمَا ... بِسَبَب الْجَرْحِ وَضِدٍّ سَالِمَا
عَنِ التَّعَصُّبِ لِمَذْهَبٍ وَلَا ... تَحْمِلُهُ قَرَابَةٌ أَنْ يَعْدِلَا
مُسْتَيْقِظًا مُسْتَحْضِرًا تَحَرَّى ... كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهْوَ أَحْرَى
وَضَابِطًا مَا عَنْهُ يَصْدُرُ فَلَا ... يَقَعُ فِي تَنَاقُضٍ عِنْدَ الْمَلَا
وَعَالِمًا مَخَارِجَ الْكَلَامِ ... لِيَسْلَمَ الْوُقُوعَ فِي الْمَلَامِ
بِحَمْلِهِ الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ مَا ... يُرِيدُهُ الْقَائِلُ جَرْحًا مُؤْلِمَا
فَاجْرَحْ وَعَدِّلَنْ لِحِفْظِ الدِّينِ ... وَابْتَعِدَنْ عَنْ غَرَضٍ مَهِينِ
عَلَيْكَ بِالتَّثَبُّتِ الْقَوِيمِ ... فَلَا تَزِغْ عَنِ الْهُدَى السَّلِيمِ
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ... مُحَذِّرًا عَنْ دَرَكٍ شَدِيدِ
أَعْرَاضُ مَنْ أَسْلَمَ حُفْرَةٌ غَدَتْ ... مِنْ حُفَرِ النَّارِ وَبِئْسَمَا احْتَوَتْ
قَامَ عَلَى شَفِيرِهَا صِنْفَانِ ... أَهْلُ الْحَدِيثِ وَذَوُو السُّلْطَانِ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَهْلُ الْعَصرِ لَا ... يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ سِوَى الَّذِي انْجَلَى
مِنْهُمُ بِالْبَيِّنَةِ الْوَاضحَةِ ... وَنِعْمَ مَا قَالَ قَوِيُّ الْحُجَّةِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): قال الإمام الذهبيّ -رحمه اللهُ تعالى- في مقدّمة كتابه "ذكر من يُعتَمد قوله في الجرح والتعديل": (اعلم) -هداك الله- أن الذين قَبِلَ الناس قولهم في الجرح والتعديل على ثلاثة أقسام:
قسم تكلّموا في أكثر الرواة، كابن معين، وأبي حاتم الرازي. وقسم تكلّموا في كثير من الرواة، كمالك، وشعبة. وقسم تكلّموا في الرجل بعد الرجل، كابن عيينة، والشافعيّ. قال: والكل أيضًا على ثلاثة أقسام: قسم منهم متعنّتٌ في التوثيق، متثبّتٌ في التعديل، يَغْمِزُ الراوي بالغلطتين وبالثلاث، ويُليّن بذلك حديثه، فهذا إذا عدّل شخصًا، فعَضّ على قوله بنواجذك، وتمسّك بتوثيقه، وإذا ضعّف رجلًا فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه، ولم يوثِّق ذلك الرجل أحد من الحذّاق، فهو ضعيف،