تقدّمت للمصنّف قبل نحو ثلاثين سطرًا، ونصّها: "فإن كانت العلّة في تضعيفك الخبر، وتركك الاحتجاج به إمكان الإرسال فيه لزمك أن لا تُثبت إسنادًا معنعنًا إلخ، فهذا مما يقوّي ما قلته فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب.
(لَزِمَهُ تَرْكُ الِاحْتِجَاجِ، فِي قِيَادِ قَوْلِهِ) بقاف مكسورة، ثم مثنّاة من تحتُ، آخره دال مهملة: أي فيما يقود إليه، ويقتضيه (بِرِوَايَةِ مَنْ يُعْلَمُ) متعلّق بـ "الاحتجاج" (أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ، إِلَّا فِي نَفْسِ الْخَبَرِ) "في" بمعنى الباء، وهو استثناء من قوله: "برواية من الخ"، يعني أنه لا يحتجّ برواية من سمع من شيخه، إلا بالخبر (الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ السَّمَاعِ) أي تصريح الراوي بسماع ذلك الخبر من شيخه (لِمَا بَيَّنَّا) بكسر اللام هي للتعليل، و"ما" موصولة، والجارّ والمجرور متعلّق بـ "لزم" من قوله: "لزمه ترك الاحتجاج إلخ"، أو متعلّق بمقدّر خبر لمحذوف: أي وذلك كائن لما بيّنّا.
وقوله (مِنْ قَبْلُ) بالبناء على الضمّ، كما مرّ نظيره قريبًا (عَنِ الْأَئِمَّةِ) متعلّق بـ "بيّنّا"، أو بحال مقدّرٍ: أي منقولًا عن الأئمة (الَّذِينَ نَقَلُوِا الْأَخْبَارَ، أَنَّهُمْ) بفتح الهمزة؛ لوقوعها موقع المفرد، حيث وقعت مفعولًا لـ "بيّنّا" (كَانَتْ لَهُمْ تَارَاتٌ) بالرفع اسم "كان" مؤخّرًا، وخبرها "لهم"، و"التارات" جمع"تَارَةٍ"، قال في "اللسان": "التارة": الحين والمرّة، ألفها واو، جمعها تارات، وتِيَرٌ، قال الشاعر:
يَقُومُ تَارَاتٍ وَيَمْشِي تِيَرَا
وقال العجاج:
ضَرْبًا إِذَا مَا مِرْجَلُ الْمَوْتِ أَفَرْ ... بِالْغَلْيِ أَحْمَوْهُ وَأَحْنَوْهُ التِّيَرْ
قال ابن الأعرابيّ: تأرة مهموز، فلما كثُر استعمالهم لها تركوا همزها. انتهى (١). وقال في "المصباح": "التار": المرّة، وأصلها الهمز، لكنه خُفّف لكثرة الاستعمال، وربّما هُمزت على الأصل، وجُمعت بالهمز، فقيل: تَأْرة وتِئَارٌ، وتِئَرٌ، قال ابن السّرّاج: وكأنه مقصور من تِئَار، وأما المخفّف فالجمع تَارَاتٌ. انتهى (٢).
والمعنى هنا أن لهم أوقاتًا (يُرْسِلُونَ فِيهَا) أي في تلك التارات (الْحَدِيثَ إِرْسَالًا) أي يطلقونه إطلاقًا، يعني أنهم لا يقيّدونه بذكر من سمعوا منه، فقول (وَلَا يَذْكُرُونَ مَنْ سَمِعُوهُ مِنْهُ) مؤكّد لقوله: "يرسلون إلخ" (وَتَارَاتٌ يَنْشَطُونَ) بفتح أوله، مضارع نَشِط، يقال: نَشِط في عمله يَنْشَطُ، من باب تَعِبَ نَشَاطًا: إذا خفّ، وأسرع. قاله الفيّوميّ (فِيهَا) أي في تلك التارات (فَيُسْنِدُونَ الْخَبَرَ) أي يضيفونه إلى من سمعوا منه، يقال:
(١) "لسان العرب" ٤/ ٩٦.
(٢) "المصباح المنير" ١/ ٧٨.