وَلَوْ ذَهَبْنَا نُعَدِّدُ الْأَخْبَارَ الصِّحَاحَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِمَّنْ يَهِنُ بِزَعْمِ هَذَا الْقَائِلِ وَنُحْصِيهَا، لَعَجَزْنَا عَنْ تَقَصِّي ذِكْرِهَا وَإِحْصَائِهَا كُلِّهَا، وَلكِنَّا أَحْبَبْنَا أَنْ نَنْصِبَ مِنْهَا عَدَدًا يَكُونُ سِمَةً لِمَا سَكَتْنَا عَنْهُ مِنْهَا).
إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:
بيّن رَحِمَهُ اللهُ تعالى بهذا أن من الأمثلة على ما تقدّم من أن الأئمة يكتفون بمجرّد المعاصرة بين المعنعنين، وإن لم يثبت سماع بعضهم من بعض: روايةَ عبد الله بن يزيد الخطميّ -وهو من صغار الصحابة، حيث رأى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن كلّ من حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عمرو أبي مسعود الأنصاريّ البدريّ -رضي الله عنه- حديثًا مرفوعًا إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بالعنعنة دون ذكر السماع، ولم يثبت لدينا أنه شافه أحدًا منهما بحديث قط، ولا وجدنا رؤيته لهما، ولم نسمع من أحد من أهل العلم بالأخبار ممن تقدّمنا، ولا ممن عاصرناه أنه طعن في حديثي عبد الله بن يزيد المذكورين بضعفهما بسبب العنعنة، بل هما وأمثالهما عند أهل الحديث من صحاح الأسانيد وقويّها يرون العمل والاحتجاج بما روي بها، وهي في زعم المنتحل المذكور ضعيفة لإمكان الإرسال فيها، إلا إذا اتّضح سماع المعَنْعِن عمن عنعن عنه، ولو ذهبنا نحصي الأحاديث التي صححها أهل العلم مع ورودها بالعنعنة، وهي ضعيفة عند المنتحل؛ لِمَا ذُكر لعجزنا عن إحصائها، ولكن أحببنا أن نذكر منها عددًا يكون علامةً لما سكتنا عنه، ثم شرع في ذكر الأمثلة، فقال: وهذا أبو عثمان النهديّ إلخ. هذا خلاصة كلامه رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
وناقشه العلامة ابن رشيد رَحِمَهُ اللهُ تعالى في الدليل الذي ذكره آنفًا، فقال:
الدليل الثالث: من أدلة مسلم، وهو أخصّ من الأول، وكأنه من تتمة الثاني؛ إذ عرضه في مَعْرِض التمثيل، تحريرُه أن قبول أحاديث الصحابة بعضهم عن بعض مجمع عليه، دون طلب، ولا بحث عن لقاء أو سماع، بل من مجرد المعاصرة، وأبدى من ذلك مثالًا أشار فيه إلى حديثين، ادَّعَى الإجماع على قبولهما، وذلك قوله:
"فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري، وقد رأى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، قد رَوَى عن حذيفة، وعن أبي مسعود الأنصاري، عن كل واحد منهما حديثًا إلخ.
فأقول: الحديثان اللذان أشرتَ إليهما، أما حديث عبد الله بن يزيد، عن حذيفة، فقد خرّجتَهُ في "باب الفتن" من كتابك، وهو قول حذيفة -رضي الله عنه-: "أخبرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة"، وليس فيه ذكر سماع، ولا نعلم الآن من ذَكَرَ فيه سماعًا.
وأما حديثه عن أبي مسعود، وهو حديث: "نفقة الرجل على أهله صدقة"،