وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) ص ٢ إِنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ الْبَيِّنَاتُ أَوْ إِقْرَارُ مَنْ يَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ
وَالْعِلَّةُ فِي الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ دُونَ الْعِلْمِ التُّهْمَةُ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا قَضَى بِعِلْمِهِ كَانَ مُدَّعِيًا عِلْمَ مَا لَمْ يُعْلَمْ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ
وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَتَلَ أَخَاهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ قَاتِلٌ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْقَوَدُ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ عَمْدًا (وَالْقَاتِلُ عَمْدًا) لَا يَرْثُ (مِنْهُ) شَيْئًا لِمَوْضِعِ التُّهْمَةِ فِي وِرَاثَتِهِ
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَاجَّهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ شِجَاجٌ فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ فَأَعْطَاهُمُ الْأَرْشَ ثُمَّ قَالَ (إِنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ وَمُخْبِرُهُمْ أَنَّكُمْ قَدْ رَضِيتُمْ أَرَضِيتُمْ قَالُوا نَعَمْ فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَقَالَ أَرَضِيتُمْ قَالُوا لَا فَهَمَّ بِهِمُ الْمُهَاجِرُونَ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ صَعِدَ (الْمِنْبَرَ) فَخَطَبَ ثُمَّ قَالَ أَرَضِيتُمْ قَالُوا نَعَمْ
وَهَذَا بَيِّنٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ (مِنْهُمْ) بِمَا عَلِمَ مِنْهُمْ وَلَا قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ عَلِمَ رِضَاهُمْ
وَهَذَا مُعْظَمُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ
وَأَمَّا مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّ (وَسَنَذْكُرُهُمْ بَعْدُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)
فَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّهُ مُسْتَيْقِنٌ قَاطِعٌ لِصِحَّةِ مَا يَقْضِي بِهِ إِذَا عَلِمَهُ عِلْمَ يَقِينٍ وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَاذِبَةً وَوَاهِمَةً وَعِلْمُهُ بِالشَّيْءِ أَوْكَدُ لِأَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ فِي عِلْمِهِ الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ
وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ وَيُسْقِطَ الْعُدُولَ بِعِلْمِهِ فَكَذَلِكَ مَا عَلِمَ صِحَّتَهُ
وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ عَلَى غَيْرِ مَا شَهِدُوا بِهِ أَنَّهُ يُنْفِذُ عِلْمَهُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمْ وَلَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمْ وَيَرُدُّهَا بِعِلْمِهِ
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ