وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُنْكِرُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَتَقُولُ: "مَنْ قَالَ بِهِ فَقَدْ فَجَرَ".
وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَائِشَةَ، وَتَأْوِيلٌ، وَلَا يجوز حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِظَنِّهَا.
وَلَوْ كَانَتْ حَكَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فِي مُخَالَفَتِهِ، كَانَ قَوْلُهَا مَقْبُولًا.
وَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ نَقَلَهُ وَحْدَهُ تُوُهِّمَ عَلَيْهِ -كَمَا قَالَتِ- الْغَلَطُ.
وَلَكِنْ قَدْ نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عُمَرُ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ١.
فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ، وَقَدْ تَبَرَّأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الظُّلْمِ؛ إِذْ يَقُولُ: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ٢.
أَجَبْنَاهُمْ بِقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِبَعْضِهِمْ، مَا الظُّلْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؟
فَقَالَ: أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مَا لَيْسَ لَهُ.
قُلْتُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ كل شَيْء.
= فَقَط، فافترق أَمر المجازاة بِالنِّسْبَةِ للمحسنين والمجرمين فَلَا يُقَاس أَحدهمَا على الآخر، فَلَو حفظ الله تَعَالَى أَوْلَاد الْمُحْسِنِينَ بفضله وبدعائهم فَلَا يهْلك وَلَا يعذب أَبنَاء الْكفَّار بِمُجَرَّد كفر آبَائِهِم إِلَّا أَن يستوجبوا هم الْعَذَاب بأعمالهم. أما الإهلاك فِي الدُّنْيَا بالمجاورة وشؤم الصُّحْبَة فَهَذَا يجْرِي على الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار ثمَّ يبعثون على نياتهم، كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "يَغْزُو جَيش الْكَعْبَة فَإِذا كَانُوا ببيداء من الأَرْض يخسف بأولهم وَآخرهمْ، قَالَت: قلت: يَا رَسُول الله كَيفَ يخسف بأولهم وَآخرهمْ وَفِيهِمْ أسواقهم وَمن لَيْسَ مِنْهُم؟ قَالَ: يخسف بأولهم وَآخرهمْ ثمَّ يبعثون على نياتهم"، فإهلاك المحسن مَعَ المسيئين فِي الدُّنْيَا بشؤم الْمُجَاورَة لَيْسَ خَاصّا بالكفار بل هُوَ جَار على الْمُؤمنِينَ أَيْضا. -مُحَمَّد بدير-.
١ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: هُوَ عبد الله بن قيس بن سليم، أسلم وَرجع إِلَى بِلَاده، وَقدم الْمَدِينَة بعد فتح خَيْبَر، اسْتَعْملهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعض الْيمن، وَاسْتَعْملهُ عمر على الْبَصْرَة فَافْتتحَ الأهواز ثمَّ أَصْبَهَان، وَاسْتَعْملهُ عُثْمَان على الْكُوفَة، ثمَّ كَانَ أحد الْحكمَيْنِ بصفين، ثمَّ اعتزل الْفَرِيقَيْنِ، كَانَ من عُلَمَاء الصَّحَابَة، وَكَانَ حسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ توفّي سنة ٤٤هـ.
٢ الْآيَة: ٢٩ من سُورَة ق.