الأتقياء الْأَبْرِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا" ١.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَةِ لَهُ: "أَلَا إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا، كَمَنْ رَأَى أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مُخَلَّدِينَ، وَأَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ مُعَذَّبِينَ، شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، وَحَوَائِجُهُمْ خَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّامًا يَسِيرَةً، لِعُقْبَى رَاحَةٍ طَوِيلَةٍ. أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ، مِمَّا يَجْأَرُونَ٢ إِلَى رَبِّهِمْ "رَبَّنَا رَبَّنَا". وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ، كَأَنَّهُمُ الْقِدَاحُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَقُولُ: مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، وَخُولِطُوا، وَلَقَدْ خَالَطَ الْقَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ".
وَذكر بن عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْفَتَى الَّذِي كَلَّمَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَلَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ عَيٍّ بِهِمْ، وَلَا بَكَمٍ، وَأَنَّهُمْ لَهُمُ النُّبَلَاءُ النُّطَقَاءُ الْفُصَحَاءُ، الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَيَّامِهِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ فَرَقًا٣ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَيْبَةً لَهُ".
فَهَذِهِ الْخِلَالُ هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَا يُنْكَرُ -مَعَ هَذَا- أَنْ يَكُونَ الْجَمَالُ فِي اللِّسَانِ، وَلَا أَنْ تَكُونَ الْمُرُوءَةُ فِي الْبَيَانِ، وَلَا أَنَّهُ زِينَةٌ مِنْ زِيَنِ الدُّنْيَا، وَبَهَاءٌ مِنْ بَهَائِهَا، مَا صَحِبَهُ الِاقْتِصَادُ، وَسَاسَهُ الْعَقْلُ، وَلَمْ يَمِلْ بِهِ الِاقْتِدَارُ عَلَى الْقَوْلِ إِلَى أَنْ يُصَغِّرَ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُعَظِّمَ صَغِيرًا، أَوْ يَنْصُرَ الشَّيْءَ وَضِدُّهُ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ.
وَهَذَا هُوَ الْبَلِيغُ الَّذِي يَبْغَضُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْغَضُكُمْ إِلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ" ٤.
١ وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "إِن الله يحب الْأَبْرَار الأتقياء الأخفياء"، رَوَاهُ ابْن ماجة: فتن ١٦، وَأحمد: ٣/ ٤٦٢.
٢ يجأرون: يَتَضَرَّعُونَ بِالدُّعَاءِ وَذَلِكَ بِرَفْع الصَّوْت والاستغاثة.
٣ فرقا: أَي خوفًا وفزعًا.
٤ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: بر ٧١، وَأحمد ٣/ ٣٦٩، ٤/ ١٩٣، ١٩٤، وَانْظُر صَحِيح الْجَامِع برقم ٥٣٥ =