وَأَمَّا مُنَازَعَةُ فَاطِمَةَ، أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مِيرَاثِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَنَّتْ أَنَّهَا تَرِثُهُ كَمَا يَرِثُ الْأَوْلَادُ آبَاءَهُمْ.
فَلَمَّا أَخْبَرَهَا بِقَوْلِهِ، كَفَّتْ.
وَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَنَعَ فَاطِمَةَ حَقَّهَا مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهَا، وَهُوَ يُعْطِي الْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ حُقُوقَهُمْ؟
وَمَا مَعْنَاهُ١ فِي دَفْعِهَا عَنْهُ، وَهُوَ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِوَلَدِهِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ؟ وَإِنَّمَا أَجْرَاهُ مَجْرَى الصَّدَقَةِ، وَكَانَ دَفْعُ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ أَوْلَى بِهِ.
وَكَيْفَ يَرْكَبُ مِثْلَ هَذَا وَيَسْتَحِلُّهُ مِنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ يَرُدُّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مَا بَقِيَ فِي يَدَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مُذْ وَلِيَ؟ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى جِهَةِ الْأُجْرَةِ، فَجَعَلَ قِيَامَهُ لَهُمْ صَدَقَةً عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: انْظُرِي يَا بُنَيَّةُ، فَمَا زَادَ فِي مَالِ أَبِي بَكْرٍ، مُذْ وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ، فَرُدِّيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَاللَّهِ مَا نِلْنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مَا أَكَلْنَا فِي بُطُونِنَا مِنْ جَرِيشِ٢ طَعَامِهِمْ، وَلَبِسْنَا عَلَى ظُهُورِنَا مِنْ خَشِنِ ثِيَابِهِمْ.
فَنَظَرَتْ فَإِذْ بِكُرٍّ وَجَرْدٍ قَطِيفَةٍ، لَا تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَحَبَشِيَّةٍ٣.
فَلَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ كَلَّفَ مَنْ بَعْدَهُ تَعَبًا".
وَلَوْ كَانَ مَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ ظُلْمًا لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لَرَدَّهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -حِينَ وَلِيَ- عَلَى وَلَدهَا.
١ مَعْنَاهُ: مَقْصُوده.
٢ الجرشِي: الْحُبُوب الَّتِي لم ينعم دقها.
٣ الحبشية: النَّاقة شَدِيدَة السوَاد.