وَهَذَا نَقْضٌ لِذَاكَ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنحن نقُول: إِنَّه لَيْسَ، هَهُنَا، تَنَاقَضٌ.
لِأَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ أَوْ يَأْكُلَ مَاشِيًا.
يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ وَأَكْلُهُ عَلَى طُمَأْنِينَةٍ، وَأَنْ لَا يَشْرَبَ -إِذَا كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي سَفَرٍ أَوْ حَاجَةٍ وَهُوَ يَمْشِي- فَيَنَالَهُ مِنْ ذَلِكَ شَرَقٌ، أَوْ تَعَقُّدٌ مِنَ الْمَاءِ فِي صَدْرِهِ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: "قُمْ فِي حَاجَتِنَا"، لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَقُومَ حَسْبُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ "امْشِ فِي حَاجَتِنَا، اسْعَ فِي حَاجَتِنَا".
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْأَعْشَى:
يَقُومُ عَلَى الْوَغْمِ١ قَوْمَهُ ... فَيَعْفُو إِذَا شَاءَ أَوْ يَنْتَقِمْ
يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: "يَقُومُ عَلَى الْوَغْمِ" أَنَّهُ يُطَالِبُ بِالذَّحْلِ٢، وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ.
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} ٣.
يُرِيدُ: مَا دُمْتَ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ بِالِاخْتِلَافِ، وَالِاقْتِضَاءِ، وَالْمُطَالَبَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الْقِيَامَ وَحْدَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: "كَانَ يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ"، يُرَادُ: غَيْرَ مَاشٍ وَلَا سَاعٍ.
وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى طُمَأْنِينَةٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاعِدِ.
١ الوعم: الحقد الثَّابِت فِي الصَّدْر، والقهر "كَمَا فِي الْقَامُوس".
٢ الذحل: الثأر، أَو طلب مُكَافَأَة بِجِنَايَة جنيت عَلَيْهِ.
٣ الْآيَة: ٧٥ من سُورَة آل عمرَان.