أما المعتزلة فقد خالفوا هذا المنهج، حيث اعتدوا بالعقل اعتدادًا كبيرًا، فارتادوا بالمسلمين في فهم العقائد ودرسها طريقًا جديدة لم يألفها المسلمون ولا كان لهم عهد بها من قبل.
بيد أن ذلك لا يعني أنهم أهملوا النقل أو أنكروا حجيته، بل كان منهجهم يعتمد على المنقول والمعقول جميعًا، وقد أشار إلى ذلك الإسفراييني وذكر أنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف وجمعوا بين المعقول والمنقول، وأقاموا سياجًا قويًّا من البراهين والحجج المنطقية للدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين لها والمعترضين عليها.
ولقد عزا الشهرستاني هذه النزعة العقلية التي امتاز بها المعتزلة إلى تأثرهم بالفلسفة اليونانية، وإدمانهم النظر في المترجم منها إلى العربية.
ويقول أحد الباحثين معلقًا على ذلك:
" وقد ظهر أثر هذا التأثر بوضوح في آرائهم وأدلتهم ومقدمات براهينهم وقد دفعهم إلى ذلك أمران:
الأول: أنهم وجدوا فيها -أي في الفلسفة اليونانية- ما يرضي منهجهم العقلي وشغفهم الفكري، وجعلوا فيها مرانًا عقليًا جعلهم يلحمون الحجة بالحجة.
الثاني: أن الفلاسفة وغيرهم لما هاجموا بعض المبادئ الإسلامية تصدى هَؤُلَاءِ للرد عليهم، واستخدموا بعض طرقهم في النظر والجدل، وتعلموا الكثير منها ليستطيعوا أن ينالوا الفوز عليهم ".
وإذا كان المعتزلة يجمعون في درسهم للعقائد الدِّينية بين العقل والنقل، فإنهم يقدمون العقل ويتخذونه أساس المعرفة الأول، ويرونه قادرًا على معرفة كل شيء ما خلا الذات الإلهية، فلا غرو أن عولوا عليه في النظر في العقائد وأمور السياسة والعلوم المختلفة كالحديث والفقه والأصول.
وهم بذلك يختلفون عن الأشاعرة والماتريدية اختلافًا كبيرًا حيث يقدم هَؤُلَاءِ الدليل النقلي على الدليل العقلي، ويرون العقل مجرد أداة لفهم النصوص واستنباط الأحكام