على كل أحد أن يرحم عدوه إذا كان عاقبته النار والتخليد فيها، وألا يطلب الانتقام منه بما كان منه بمكانةٍ، وأن يقال: ولو تراهم إذ وقفوا على النار من الذل والخضوع لرحمتهم بما كان منهم من التكبر والاستكبار في الدنيا، وهو كقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الآية، أخبر عن ذلهم وخضوعهم في الآخرة بما كان منهم في الدنيا من الاستكبار والاستنكاف؛ فعلى ذلك يخبر نبيّه عما يصيبهم من الذلّ بتكبرهم في الدنيا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وجل -: (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
تمنوا عند معاينتهم العذاب العود والرد إلى الدنيا. ثم فيه دليلان:
أحدهما: أنهم عرفوا أن ما أصابهم أإنما أصابهم، بتكذيبهم الآيات وتركهم الإيمان، حيث قالوا: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا).
والثاني، أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير؛ لأنهم إنما فزعوا عند معاينتهم العذاب فتمنوا الرد والعود إلى الدنيا؛ لأن يكونوا من المؤمنين، ولم يفزعوا إلى شيء آخر من الخيرات - دل أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير، وأنه ضد التكذيب، والتكذيب هو درد فعلى ذلك التصديق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ... (٢٨)
قيل فيه وجوه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)، إنما نزل في المنافقين، يدل على ذلك قوله: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ)، وهو سمة أهل النفاق أنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين، ويضمرون الخلاف، ويخفون العداوة لهم.
ويحتمل قوله - تعالى -: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) ورؤساؤهم كانوا عرفوا في الدنيا أنه رسول، وأن ما (أنزل) عليه هو من ربه، وعرفوا أن البعث حق، لكنهم أخفوا ذلك على أتباعهم، وستروه، ثم ظهر ما كانوا يخفون على أتباعهم.