وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ): هو كما نهى رسول اللَّه: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وأمثاله، وإن كان معلوما أنه لا يكون من الجاهلين، وهو ما ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي عن الشيء، بل بالنهي تظهر العصمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤٧) إني أعوذ بك أن أعود إلى سؤال لا أعلم بالإذن في السؤال هذا يحتمل.
وقوله: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي: إن لم ترحمني بالعصمة من العود إلى مثله أكن من الخاسرين، هذا يشبه أن يكون.
ويحتمل أن يكون ذكر هذا لما لا يستوجبون المغفرة والرحمة إلا برحمة اللَّه وفضله، على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللَّه "، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: " ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته ".
وقوله تعالى: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ): هو طلب المغفرة بالكناية، وهو أبلغ وأكبر من قوله: اللهم اغفر لي؛ لأن في قوله: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) قطع رجاء المغفرة من غيره، وإخبار ألَّا يملك أحد ذلك، وليس في قوله: اغفر لي قطع كون ذلك من غيره؛ لذلك كان ذلك أبلغ من هذا، وكذلك سؤال آدم وحواء المغفرة حيث قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. . .) الآية، هو سؤال بالكناية فهو أبلغ في السؤال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أنزل من الجودي إلى قرار الأرض، وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (اهْبِطْ) أي: انزل وأقم على المقام والمكث في المكان، ليس على الهبوط من مكان مرتفع إلى مكان منحدر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ): السلام هو أن يسلم عن الشرور والآفات، والبركة هي نيل كل خير وبر على غير تبعة، ثم هما في التحصيل واحد؛ لأنه إذا سلم عن كل شر وآفة نال كل خير وبر، وإذا نال كل خير سلم عن كل شر وآفة، هما في الحقيقة واحد لكنهما في العبارة مختلف، وهو كالبر والتقوى من العبد: البر هو كسب كل خير، والتقوى هو اتقاء كل شر ومعصية، هما في العبارة مختلفان وفي الحقيقة واحد؛