وهو يحتمل هذين الوجهين:
أحدهما: لا تعيير عليكم ولا ملامة؛ أي ليس عليكم في العقل تعيير ولا ملامة؛ إذا تبتم وأقررتم بالخطأ، وهكذا كل من أذنب ذنبًا أو ارتكب كبيرة؛ ثم انتزع عنها وتاب منها؛ لا يعيَّر - هو - عليه ولا يلام. وكذلك قيل في قوله: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) ذكر أنهم كانوا يعيرون أهل الكفر في كفرهم؛ وينابزونهم؛ ثم أسلموا؛ فنهوا أن ينابزوهم؛ ويصنعوا بهم مثل صنيعهم بهم في حال كفرهم، ولو وجب التعيير والملامة بعد الانتزع عنه والتوبة؛ أو يجوز ذلك لكان أصحاب رسول اللَّه معيَّرين ملامين؛ لأنهم كانوا أهل الكفر في الابتداء، فهذا مما لا يحل في العقل.
والثاني: قوله: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ): لا أعيركم؛ على ما قال ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أي: لا أذكر ما كان منكم إلينا؛ أمنهم عن أن يذكر شيئا مما كان منهم إليه؛ ولذلك قال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
ذكر أن الشيطان هو الذي فعل ما كان بينه وبين إخوته؛ وكذلك فعل؛ حيث قال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)، أضاف ذلك إلى الشيطان، ولم يضف إلى إخوته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ).
قطع فيه القول بالمغفرة لهم؛ حين أقروا بالخطايا وتابوا عما فعلوا، وهكذا كل من تاب عن ذنب ارتكبه ونزع عنه؛ أن يقطع القول فيه بالمغفرة والرحمة.
وقوله: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) يخرج على الدعاء لهم بالمغفرة، أو على الإخبار بالوحي أنه يغفر لهم، أو قد غفر لهم، أو يقول: استغفروا اللَّه؛ الذي كان بين اللَّه وبينكم يغفر لكم.
(وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لأن كل من يرحم من الخلائق؛ إنما يرحم برحمة منه إليه؛ فهو أرحم الراحمين؛ بما قلنا؛ على ما قلنا في قوله: (خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)، و (أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، لأن من يحكم من الخلائق بحكم يجوز إنما يحكم بحكم ناله منه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
دل هذا من يوسف؛ حيث قطع القول فيه أنه يصير بصيرًا؛ إنه عن وحي قال هذا لا عن رأي منه واجتهاد؛ إذ قطع القول فيه أنه إذا ألقي على وجهه يصير بصيرًا.