الفكر في أصول الدِّين وفروعه، ويرى الزبيدي أن علم أبي حنيفة المذكور في كتبه هو من الأمالي التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع بن عبد اللَّه البلخي وأبي مقاتل حفص ابن مسلم السمرقندي، فهم الذين قاموا بجمعها، وتلقاها عنهم جماعة من الأئمة كإسماعيل بن حماد ومُحَمَّد بن مقاتل الرازي ونصر بن يَحْيَى البلخي وغيرهم، إلى أن وصلت إلى أبي منصور الماتريدي.
ولكن كيف وصل علم أبي حنيفة ومؤلفاته إلى الماتريدي؟
معلوم أن الإسلام تغلب على بلاد ما وراء النهر منذ الفتح الإسلامي -كما أشرنا إلى ذلك في أول هذه الدراسة- وأن أهل هذه البلاد دخلوا في الإسلام أفواجًا، وأنهم فتحوا المدارس لتعليم الناس أمور الدِّين الإسلامي.
ولما ظهرت المذاهب الفقهية اعتنق أكثرهم المذهب الحنفي، فانتشرت آراء أبي حنيفة وكتبه في هذه البلاد، ومن هنا يقول أبو معين النسفي: " إن أئمة أصحاب أبي حنيفة السالكين طريقه في الأصول والفروع الناكبين عن الاعتزال في جميع ديار ما وراء النهر وخراسان من مرو، وبلخ وغيرهما - كلهم من قديم الزمان كانوا على هذا المذهب ".
ومن أبرز هَؤُلَاءِ الأئمة: أبو مطيع البلخي الذي تفقه على أبي حنيفة، وأبو سليمان الجوزجاني صاحب مُحَمَّد بن الحسن الذي أخذ عنه الفقه وروى كتبه، وعلى أبي سليمان الجوزجاني تتلمذ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني وأبو نصر العياضي اللذان أخذ عنهما أبو منصور الماتريدي كما ذكرناه عند حديثنا عن ترجمته وشيوخه.
ولم يكن تأثير المذهب الحنفي في الماتريدي في المذهب الكلامي فقط، بل إنه تأثر به في مجال الفقه، وتأثر به في المنهج والطريقة.
ولم يكن -أيضًا- المذهب الحنفي هو المؤثر الوحيد في الماتريدي، بل إنه -وكما بان لنا- تأثر بالصحابة فيما نقل عنهم، وتأثر بالتابعين، وتأثر بجملة من العلماء لا يمكن حصرهم، وقد ذكرنا نماذج دالة على ذلك فيما سبق.
لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن الماتريدي عندما نقل وتأثر بسابقيه لم يكن بالمقلد التابع الذي يحتذي دونما بصر أو وعي، بل كان ينقض وينقد ويحلل ويدقق؛ ولذلك يمكن أن يقال: استطاع أبو منصور أن يؤسس المنهج الماتريدي؛ إذ كان أول متكلم من أهل السنة يعرض نظرية المعرفة بطريقة منهجية تحدد سيره في الاستدلال والوصول إلى