في الماء بالطبع من غير أن يعلم أنها تسبح، وكذلك الطير الذي يطير في الهواء من غير أن يعلم بالطيران، فعلى ذلك يحتمل فهم هذه البهائم وعرفانها ما ذكرنا من المصالح والمهالك من غير أن يعلم أنها تعرف ذلك، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل خلقة هذه الأشياء بالذي يقفون على المخاطبات والأمر والنهي، ويعرفون ذلك ما لا يعرف مثله البشر ألا ترى أن البشر لا يعرفون المهالك والمصالح إلا بالتعلم، والبهائم وإن صغر ذلك تعرف حتى تتوقى المهالك وترغب في المصالح، ومما يدل أن هذه الأشياء مما يفهم الأمر والنهي والمخاطبات قوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠). وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)، ألا ترى أنهم فهموا الخطاب حيث ردوا عليهم الجواب بقوله: (أَنطَقَنَا) فذلك ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
فذلك الوحي والقذف لكل البهائم لا للنحل خاصة لما ذكرنا من معرفتها المهالك والمصالح، وما به معاشها وغذاؤها مما به فسادها وهلاكها حتى عرفت ذلك من غير أن تعلم، والبشر لا يعرفون إلا بالتعلم، فهو - واللَّه أعلم - لوجهين:
أحدهما: للمحنة أن البشر امتحنوا بالتعليم، فذلك من اللَّه امتحان لهم، والبهائم لا محنة عليهم، فعرفوا ذلك على غير تعلم، أو كان ذلك للبشر بالتعلم؛ لفضل بعض على بعض في العلم بالتعليم؛ إذ البهائم يستوي صغيرها وكبيرها في معرفة ذلك، وفي بني آدم تتفاضل وتتفاوت بالتعلم، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: فإذا كانت البهائم كلها مشتركة في ذلك الإلهام والوحي فما معنى تخصيص النحل بالذكر من غيرها من البهائم؟
قيل: يحتمل تخصيص النحل بالذكر - واللَّه أعلم - لما أن هذه الأشياء غير النحل لا تعطي تلك المنافع التي جعلت فيها، ولا تبذل للبشر إلا بالرياضة والتعلم، والنحل تعطي ذلك لهم وتبذل من غير تعلم ولا رياضة، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) وقوله: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ (٦٩)، وقوله: (فَاسْلُكِي