وقال غيره: أرادوا منه أن يجعل لهم مجلسًا على حدة؛ ليسلموا، فهم به أن يفعل ذلك؛ لحرصه على إسلامهم، وإشفاقًا عليهم، فمثل هذا يجوز الفعل إلا أن الرسل لا يجوز لهم أن يفعلوا شيئًا، وإن صغر، إلا بإذن من اللَّه - تعالى - ألا ترى أن يونس - عليه السلام - لما خرج من عند قومه مغاضبًا عليهم بغير إذن منه - عاتبه ربه بذلك معاتبة عظيمة؛ حيث قال: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤). ومثل هذا لو فعله غيره من دونهم كان ممدوحًا محمودًا في ذلك؛ فهذا يدل أن الأنبياء لم يكن لهم صنع شيء وإن قل إلا بإذن من اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (٧٥)
أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ضِعْفَ الْحَيَاةِ)، أي: مثل الحياة.
وغيره قال: (ضِعْفَ الْحَيَاةِ): عذاب الدنيا، (وَضِعْفَ الْمَمَاتِ): عذاب الآخرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)، قيل: مانعًا.
وقيل: ناصرًا ينصرك، وشافعًا يشفعك إلينا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (٧٦)
قال الحسن: قوله: (لَيَسْتَفِزُّونَكَ)، أي: كادوا ليقتلونك، وليخرجوك منها بالقتل، وقد كانوا هموا قتله، لكن اللَّه عصمه عن ذلك؛ بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا):
هكذا كان سنة اللَّه في الأمم الخالية أنهم إذا قتلوا نبيهم: لم يلبثوا بعده إلا قليلًا حتى أهلكوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الإخراج نفسه، إلا أن اللَّه أخرجه إخراج هجرة إلى المدينة لما سبق من رحمته وفضله ألا يهلك هذه الأمة إهلاك استئصال؛ فلو كانوا هم أخرجوه - لاستوجبوا به الإهلاك؛ لما كان من سنته في الأولين إهلاكهم إذا أخرجوا رسولهم من بينهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على حقيقة الإخراج منهم: أخرجوا رسول اللَّه من بينهم، وفعلوا