ذلك؛ فلم يلبثوا بعده إلا قليلًا، حتى أهلكهم اللَّه بالقتل يوم بدر وغيره، وهو ما قال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ): ففيه دلالة أنهم أخرجوه، وأنهم أهلكوا بذلك، وكذلك كانت سنة اللَّه في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.
وقال أهل التأويل في قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ)، أي: ليستنزلونك من أرض المدينة؛ حيث نزل بالمدينة؛ قالت له اليهود: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء والرسل إنما أرض الأنبياء والرسل أرض الشام؛ فإن كنت نبيًّا رسولًا فاخرج إليها فخرج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - متوجهًا إلى الشام، فعسكر على رأس أميال؛ لينتاب إليه أصحابه؛ فنزل به جبريل بهذه الآية، لكن ذكرنا أن هذا وأمثاله لا يحتمل؛ لأنه لا يجوز أن يخرج رسول اللَّه من أرض المدينة إلى أرض الشام بقول أُولَئِكَ اليهود، من غير أن كان من اللَّه إذن له في ذلك، هذا لا يحتمل ولا يتوهم منه ذلك، والوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
ويشبه أن يكون قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أي: كادوا أن يفتنونك بالمكر والكيد والخديعة لك؛ ليستفزونك من الأرض، لا أنهم كانوا يطمعون أن يفتنوه ويضلوه عن الذي أوحي إليه على التصريح والإفصاح؛ ولكن على جهة المكر به والخديعة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧)
على قول الحسن: السنة في الأمم الذين قبله: أنهم إذا قتلوا الرسول أهلكوا أو عذبوا.
وعلى قول بعضهم: السنة فيهم: أنهم إذا أخرجوا الرسول من بينهم؛ على علم منه: أنهم لا يؤمنون، بعده الإهلاك. وعلى قول بعضهم: على الإخراج نفسه، وهَؤُلَاءِ قد أخرجوا رسولهم من بيهم بقوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ. . .) الآية.
وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ)، لكنهم عذبوا تعذيب رحمة وإهلاك رحمة، لا إهلاك استئصال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا). أي: لعذابنا تحويلًا.