وجائز أن يكون تأويل قوله: (غُثَاءً)، أي: كالشيء المنسي الذي لا يذكر ألبتَّة؛ لأن أُولَئِكَ الفراعنة والأكابر إذا هلكوا لم يذكروا ألبتَّة، ولا افتخر أحد من أولادهم بهم من بعد الهلاك، كما افتخر أولاد الأنبياء والرسل والصالحين بآبائهم وأجدادهم من بعدهم، وصاروا مذكورين إلى أبد الآبدين، فأما أُولَئِكَ: صاروا خاملي الذكر كالشيء الخسيس المنسي المتروك.
وقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً)، الغثاء: ما ذكرنا على قول بعضهم كالريم الهامد الذي يحمله السيل، وعلى قول بعضهم: هو كالشيء البالي المتغير.
وعلى قول بعض: الغثاء: ما ارتفع على الماء مما لا يُنتفع به، وكله واحد.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: غثاء، أي: هلكى كالغثاء، وهو ما على السيل من الزبد والقش؛ لأنه يذهب ويتفرق.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الغثاء: ما يحمله السيل من العيدان والبعر والأغشية جميعا، والغثاء: حميل السيل.
ثم ذكر أنفس قوم عاد وثمود، وشبهها بما ذكر من الغثاء، وكذلك يذكر أنفس جميع أهل الشرور والفساد، وذكر في أهل الخير أعمالهم لا أنفسهم؛ لأن لهم أعمال الخير والصلاح؛ فتجعل أنفسهم حئة بالأعمال؛ كقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)، جعل أعمالهم أحاديث فيما بينهم، وأما أهل الكفر والشر فإنه لا أعمال لهم تذكر؛ فتذكر أنفسهم بُعدا وسحقًا.
* * *
قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
وقوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ)، قيل: من بعد قوم عاد وهَؤُلَاءِ.
(قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)
كأنه ذكر هذا لما كانوا يستعجلون العذاب الموعود والهلاك الذي أوعدوا؛ فأخبر أن لكل أمة أجلاً: لا تسبق أجلها باستعجال من يستعجل، ولا يستأخرون أجلها الذي جعل لهم.
وقوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ... (٤٤)