وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) أي: حتى إذا جاءوا جميعًا واجتمعوا - يعني: الكفار - قال لهم: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا)، يحتمل (وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) أي: قد أحطتم بها علما أنها آيات، لكن كذبتم وأنكرتم أنها آيات عنادا ومكابرة؛ إذ يجوز أن ريكلم بالنفي على إثبات ضده؛ كقوله: (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: يعلم بضد ذلك وبخلاف ما تقولون أنتم، وذلك جائز في القرآن كثير.
أو أن يكون قوله: (وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) لما لم تتفكروا فيها، ولم تنظروا إليها نظر التعظيم والإجلال لكي تعرفوا، وأحطتم بها علما أنها آيات.
وإلا لو كان التأويل على ظاهر ما ذكر لكان لهم عذر في تكذيبها إذا لم يحيطوا بها علما؛ إذ من لم يحط العلم بالشيء فله عذر الرد وترك القبول، لكن يخرج على الوجهين اللذين ذكرتهما، واللَّه أعلم.
ثم قال: (أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): في تكذيب الآيات والأعمال التي عملوها بلا حجة، ولا برهان.
(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (٨٥) أي: وجب القول بالعذاب، ووقع ما وعدوا من العذاب بما ظلموا حيث قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، ونحوه.
وقوله: (فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ) أي: لا ينطقون بالحجة مما يكون لهم به عذر.
وقوله: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) أي: في الليل والنهار لآيات لقوم يؤمنون.
ثم الآيات التي ذكر فيهما تكون من وجوه:
أحدها: دلالة وحدانيته ودلالة علمه، وتدبيره وحكمته، ودلالة كرمه وجوده، ودلالة قدرته وسلطانه، ودلالة القدرة على البعث والإحياء بعدما صاروا رمادا وترابًا.
أما دلالة كرمه وجوده: ما جعل لهم في الليل والنهار منافع تدوم ما داموا هم.
ثم تلك المنافع تكون من وجهين:
أحدهما: جعل النهار للتقلب فيه والتصرف لمعاشهم وما به قوام دنياهم، وجعل الليل راحة لهم وسكونا، ولو جعلهما جميعا للتقلب ما قام به معاشهم وما به قوام أنفسهم وأبدانهم أبدًا؛ لأنه لا يلتئم ذلك إلا بالراحة، ولو جعلهما جميعًا للراحة لم يقم أمر معاشهم، فمن رحمته وفضله جعل أحدهما للراحة والآخر للتقلب، وهو ما ذكر في آية أخوى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).
والثاني: من النعمة التي ذكر أنه جعل الذي للتقلب إنما جعل ذلك للكل، لا للبعض